أثار مشهد استدعاء علماء دين مسلمين من حملة الدكتوراه وإيقافهم في وضعية «انتباه» داخل الأكاديمية العسكرية، أمام عبد الفتاح السيسي وعدسات الكاميرات، عاصفة غضب في الأوساط الدينية والسياسية والإعلامية. الكاتب الصحفي جمال سلطان وصف ما حدث بأنه إهانة وإذلال لشخصيات دينية رفيعة تمثل قمة الهرم العلمي في العلوم الشرعية، بعد أن تقرر إخضاعهم لدورة «تثقيفية» عسكرية لمدة عامين بزعم «تحقيق الاستنارة» ومواجهة التخلف والتطرف. هذه الصورة ـ صفّ عمائم الدكتوراه في طابور عسكري ـ بدت لكثيرين كأنها مشهد من معاملة أسرى حرب، لا تعامل دولة مع كبار علمائها، خصوصًا مع تعمد بثه على الهواء أمام ملايين المصريين.

 

 

تتعمق الأسئلة حين يلاحظ الرأي العام أن الدعوة إلى «الاستنارة الدينية» طُبقت عمليًا على الأئمة والدعاة المسلمين وحدهم، بينما لم يشهد المصريون مشهدًا مشابهًا لقساوسة الكنيسة أو رموزها الدينية، رغم أن خطاب السلطة الرسمي يزعم أن الهدف عام وشامل هو «مواجهة التطرف الديني في مصر». هذا الانتقائية تكشف ـ في نظر منتقدين كُثر ـ أن المشكلة بالنسبة للنظام ليست مع «التطرف» كظاهرة عامة، بل مع الإسلام ورموزه تحديدًا، وأن عسكرة المجال الديني تتحرك في اتجاه واحد فقط.

 

عسكرة الدعوة وكشف موقف السلطة من الإسلام

 

الداعية عاصم عبد الماجد اعتبر ما جرى «محاولة فجة ومكشوفة لإهانة أهل الإسلام في مصر»، مؤكدًا أن النظام تعمد فجاجة المشهد لتحقيق صدمة إهانة حقيقية، لا مجرد إجراء بروتوكولي عابر. برأيه، امتناع السلطة عن تطبيق الإجراء نفسه على قساوسة الكنيسة يكشف بوضوح أن العداء مركّز على الإسلام كدين وهوية، وليس على فكرة «التطرف» بمعناها العام، وأن المؤسسة الكنسية خارج نطاق هذا التأديب السياسي.

 

ويذهب عبد الماجد إلى أبعد من ذلك، حين يربط بين كلام السيسي عن «انحطاط ديني تراكم عبر 14 قرنًا» وبين مشروع أوسع لاستهداف التراث الإسلامي منذ عهد الصحابة والتابعين، وهو التراث الذي يتغنى به التيار السلفي ويدّعي السير على نهجه. بهذا المعنى، فإن الرسالة لا تضرب فقط مكانة العلماء الرسميين، بل تُحرج أيضًا تيارات «السلفية المدخَلية» وذراعها الموالية للسلطة، التي طالما قدّمت نفسها حامية للتراث السلفي، فإذا بالسلطة تعلن عمليًا ازدراء هذا التراث في عمقه التاريخي.

 

 

الدكتور مصطفى جاويش صاغ سؤالًا موجعًا: لماذا قبل هؤلاء العلماء بالدنية في دينهم؟ كيف يقبل حامل الدكتوراه، أو «العالمية» الأزهرية، أن يُقال له عمليًا إن هناك «شهادة أعلى» لن ينالها من الأزهر أو الجامعات، بل من الأكاديمية العسكرية، وأن قيم #الوطنية_المزيفة هي سقف جديد يتقدم على العلم الشرعي ذاته؟ هذا التساؤل ينقل مركز النقد من السلطة وحدها إلى العلماء الذين ارتضوا طواعية دخول هذا «المعسكر الفكري» العسكري.

 

سقوط هيبة العلماء الرسميين ومكانة «عمامة الأزهر»

 

في مقابل طابور «الانتباه» داخل الأكاديمية العسكرية، يستدعي الكاتب هاشم صلاح صورة تاريخية معاكسة تمامًا: ملوك وأمراء يقفون على أبواب العلماء، لا العكس، وعلماء يعتزون بدينهم فلا يكثرون الدخول على السلطان، بل يحذرون الناس من العالم الذي يلزم قصور الحكم. يذكّر صلاح بكلام الإمام سفيان الثوري عن العالم الذي يكثر الدخول على السلطان، داعيًا إلى اتهامه في دينه، ثم يربط ذلك مباشرة بحال علماء الأزهر اليوم، من أصغر طالب علم إلى أعلى درجة علمية.

 

وفق هذا المنظور، «العمامة الأزهرية» ليست مجرد زي رسمي، بل شرف لا يدانيه شرف، يفترض أن يقف أمامه الآخرون احترامًا، لا أن تُجرّ هي نفسها إلى وقوف مهين أمام الجنرالات والرتب العسكرية. أي انتقاص من هذه العمامة لا يصدر ـ في رأي صلاح ـ إلا عن حاقد أو جاهل أو سفيه، لكن المشهد الأخير أظهر أن بعض أصحاب العمامة قَبِلوا عمليًا أن ينتقصوا أنفسهم حين قبلوا أن يتحولوا من مرجعية روحية إلى كتيبة متلقية لأوامر «التثقيف العسكري».


 

على الطرف الآخر، يذهب د. محمد مرعي إلى تحميل المسؤولية كاملة لمن سماهم «علماء السلطان»، قائلًا إن من كان يعرف الله حق المعرفة، ويحمل فعلًا شهادة الدكتوراه في العلم الشرعي بمعناها الحقيقي، ما كان ليقبل أصلًا حضور مثل هذه «المهزلة»، وأن من رضي بهذه الإهانة فقد استحقها. في هذه الرؤية، ما جرى ليس مجرد اعتداء من سلطة مستبدة على العلماء، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من التماهي مع السلطة والارتهان لها.

 

من يملك حق تحويل العلماء إلى طابور عسكري؟

 

الكاتب عادل حامد يلتقط جوهر المشهد بسؤال بسيط ومخيف في آن واحد: من يملك أصلًا الحق في تحويل حملة الدكتوراه في الشريعة إلى طابور عسكري؟ بالنسبة له، ما جرى لم يكن «استنارة» بأي معنى مهني أو علمي، بل كان استعراض قوة مكتمل الأركان، يرسل إشارة صريحة بأن الدولة لم تعد تثق بالعلماء ولا بالمؤسسات الدينية، وأن معيار «الإصلاح» يبدأ من صفّ الناس في وضعية الانتباه لا من صفّ الكتب على الطاولة.

 

يرى حامد أن شماعة «مواجهة التطرف» تحوّلت إلى وصفة جاهزة يمكن تعليقها على أي فئة تريد السلطة تأديبها أو إعادة تشكيلها، باستثناء الفئات التي لا تجرؤ على الاقتراب منها. هنا بالضبط ينكشف جوهر «عسكرة الدعوة»: إخضاع مجال الخطاب الإسلامي وحده لإعادة تشكيل قسرية، مع ترك مجالات دينية أخرى خارج نطاق المساءلة أو «الإصلاح» المزعوم.

 

 

في هذا السياق، يتساءل كثيرون: ماذا سيضيف لواء أو جنرال في الأكاديمية العسكرية إلى عقول من أمضوا سنوات في دراسة الفقه والتفسير وأصول الدين والتاريخ الإسلامي؟ وهل الهدف هو توسيع معارفهم فعلًا، أم إعادة برمجة وعيهم السياسي والدعوي بما يتناسب مع سردية النظام حول «الوطنية» و«مفهوم الدولة» و«الأمن القومي»؟ هنا تبدو الدورتان الطويلتان كنوع من «إعادة تأهيل أيديولوجي» أكثر منها تدريبًا معرفيًا.

 

بين تواضع فاروق واستعلاء المشهد الجديد

 

ضمن موجة الغضب، نشر محمد السعيد صورة لملك مصر الأسبق فاروق وهو يجلس متواضعًا في مستوى أقل من قارئ القرآن، في مقارنة بصرية صارخة بين ملكٍ رغم كل الانتقادات التي وُجّهت لعصره، أدرك رمزية القرآن والقارئ فتواضع أمامهما، وبين رئيسٍ يصفّ حملة الدكتوراه الشرعية في وضعية الانتباه العسكرية أمامه. هذه المفارقة البصرية تحوّلت إلى أداة إدانة سياسية وأخلاقية للنظام الحالي، أكثر من كونها مجرد حنين إلى ملوك الماضي.

 

 

في خلفية المشهد أيضًا صور أخرى انتشرت على منصات التواصل، منها صورة صفّ العلماء بعمائمهم في الأكاديمية العسكرية التي نشرها الداعية عاصم عبد الماجد، لترسخ أكثر في الوعي العام فكرة أن هؤلاء لم يعودوا «ورثة الأنبياء» بقدر ما صاروا جزءًا من ديكور قوة يستعرضه النظام أمام الكاميرات.

 

 

في النهاية، يبدو أن النظام لم يكتفِ بتهميش العلماء أو التحكم في المناهج والخطب، بل انتقل إلى مرحلة أبعد: كسر صورة العالم في وعي الناس، وتحويله إلى مجنّد في طابور، بينما تتكفل مواقع التواصل والإعلام الحر بفضح هذه الإهانة وتثبيتها في ذاكرة المصريين. وتظل الروابط والتوثيق كما وردت في النص مرفقة في هذا التقرير، لتبقى الشهادات والآراء قائمة على مصادرها الأصلية كما هي.