في مشهد يعري زيف العملية الديمقراطية في مصر ويكشف الوجه القبيح لنظام الانقلاب، تحولت انتخابات مجلس النواب إلى ساحة للمطاردات الأمنية والتنكيل بكل صوت يجرؤ على كشف التزوير أو توثيق شراء الذمم.

 

فبدلاً من حماية نزاهة الصناديق، انشغلت أجهزة الأمن بملاحقة المحامين والمرشحين الذين رفضوا أن يكونوا شهود زور على "مسرحية" معدة سلفاً، ليعيش المصريون فصلاً جديداً من فصول القمع تحت شعار "الصوت لمن يدفع، والسجن لمن يعترض".

 

دمياط.. انتفاضة المحامين في وجه "تجار الأصوات"

 

شهدت محافظة دمياط واقعة مشينة تكشف مدى تغول الأجهزة الأمنية وانحيازها السافر لمرشحي السلطة. فقد أقدمت نيابة دمياط على احتجاز 9 محامين شرفاء، لا لجرم ارتكبوه، بل لأنهم مارسوا حقهم الدستوري والقانوني في الاحتجاج على المخالفات الفجة التي شابت العملية الانتخابية.

 

هؤلاء المحامون، الذين ينتمون لحملة المرشح "عصام بشتو"، وجدوا أنفسهم مكبلين بالأصفاد لمجرد أنهم توجهوا لقسم شرطة فارسكور لتحرير محضر يثبت وقائع الرشاوى الانتخابية وتوزيع "كوبونات السلع" وشراء الأصوات علناً أمام اللجان.

 

وبدلاً من التحقيق في هذه الجرائم الانتخابية، قامت قوات الأمن المركزي بالاعتداء الوحشي على المحامين والمرشح، واقتادتهم إلى الحجز، في رسالة ترهيب واضحة لكل من تسول له نفسه الاعتراض.

 

ورغم إخلاء سبيلهم لاحقاً بكفالة مالية (5 آلاف جنيه للمحامين و20 ألفاً للمرشح)، إلا أن الرسالة قد وصلت: "لا مكان للمعارضة، والقانون سيف مسلط على رقاب الشرفاء فقط".

 

"ظاهرة الاعتقال".. سياسة ممنهجة لإسكات الشهود

 

لم تكن واقعة دمياط استثناءً، بل هي جزء من ظاهرة لافتة اجتاحت مصر مع انطلاق الماراثون الانتخابي. فقد تحولت أقسام الشرطة إلى مقرات لاحتجاز المرشحين المنافسين لقوائم النظام، في محاولة يائسة لإخلاء الساحة لمرشحي "مستقبل وطن" والمال السياسي.

 

في دائرة شبرا وروض الفرج، دفعت عائلة المرشحة "مونيكا مجدي" ثمناً باهظاً لجرأتها. فبعد أن وثقت المرشحة الشابة بالفيديو وقائع توزيع الأموال والاعتداء على حملتها وسرقة هواتف مندوبيها، لم تتحرك الشرطة لضبط الجناة، بل تحركت لاعتقال والدتها وشقيقتها! هذا المنطق المقلوب، حيث يُعاقب الضحية ويُكافأ الجلاد، هو السمة الغالبة لـ "جمهورية الخوف" التي أسسها السيسي.

 

وفي السويس، تكرر السيناريو مع المرشح البارز وعضو الحركة المدنية "طلعت خليل"، الذي وجد نفسه معتقلاً هو وشقيقته بعد أن فضح في بث مباشر عمليات النقل الجماعي للناخبين وشراء الأصوات. خليل صرخ من محبسه قائلاً: "احتجازي تم دون سند قانوني"، لكن صرخته ضاعت وسط ضجيج آلة القمع التي لا تعترف بقانون ولا دستور.

 

انتخابات "باطالة" وتدخل رئاسي للتجميل

 

شهدت المرحلة الأولى من الانتخابات تجاوزات فاقت كل التوقعات، من دعاية غير قانونية وتوجيه للناخبين، وصولاً إلى التلاعب في الفرز. وأمام هذا "الفجر الانتخابي"، اضطر قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي للتدخل -في خطوة دعائية مكشوفة- لمطالبة الهيئة الوطنية للانتخابات بمراجعة النتائج، في محاولة لغسل سمعة العملية الانتخابية التي تلطخت بالكامل.

 

ورغم إلغاء نتائج 19 دائرة في محافظات مثل الجيزة والفيوم وأسيوط، إلا أن المراقبين يرون في ذلك "ذراً للرماد في العيون". فالهيئة التي تحركت بأوامر السيسي هي نفسها التي صمتت عن التجاوزات في البداية، مما يؤكد أنها مجرد "سكرتارية" تابعة للسلطة التنفيذية، لا تملك من أمرها شيئاً.

 

"هندسة أمنية" للقوائم.. ومجلس "بلا معارضة"

 

المنظمات الحقوقية لم تتردد في وصف المشهد الحالي بـ "المسار الزائف". التقارير تؤكد أن الأجهزة الأمنية لم تكتفِ بمراقبة الانتخابات، بل تدخلت في "هندسة القوائم" واختيار المرشحين، مستبعدة كل من يشم فيه رائحة معارضة حقيقية أو استقلال.

 

تقرير "المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني" كشف المستور: العملية الانتخابية جرت في "بيئة مغلقة"، حيث احتكرت "القائمة الوطنية" المدعومة من النظام المشهد بالكامل، وسط ممارسات فجة مثل توريث المقاعد لأبناء النواب السابقين والمسؤولين، والدفع بشخصيات لا علاقة لها بالدوائر ولا بهموم الناس.

 

لقد تم تفريغ البرلمان من مضمونه، وتحويله إلى "غرفة ملحقة" بقصر الاتحادية، مهمتها الوحيدة التصفيق وتمرير القوانين التي تزيد الشعب فقراً وقهراً. والمرشحون الذين حاولوا كسر هذا الطوق وجدوا أنفسهم إما في السجون أو خارج السباق بقرارات إدارية تعسفية.

 

الخلاصة: ديمقراطية "الكلبشات"

 

إن ما يحدث في انتخابات مجلس النواب ليس ممارسة ديمقراطية، بل هو عملية "سطو مسلح" على إرادة الشعب. عندما يُعتقل المحامي الذي يدافع عن القانون، ويُضرب المرشح الذي يرفض الرشوة، وتُسجن الأم التي توثق التزوير، فإننا نكون أمام نظام فقد شرعيته الأخلاقية والسياسية بالكامل.

 

حكومة الانقلاب لا تريد برلماناً، بل تريد "ديكوراً" يستر عوراتها أمام العالم. لكن فاتورة هذا القمع ستكون باهظة، فالشعب الذي يرى نوابه الشرفاء يُساقون إلى السجون، ويري أصواته تُباع في سوق النخاسة السياسية، لن ينسى ولن يغفر. وهذه "الانتخابات" ستظل وصمة عار في تاريخ مصر، وشاهداً على عصر أصبح فيه "الحق" جريمة، و"الباطل" هو سيد الموقف.