في حلقة جديدة من مسلسل "تصفية ممتلكات الدولة"، أعلنت حكومة الانقلاب عن تلقيها عروضاً من 11 تحالفاً استثمارياً (محلياً وأجنبياً) للاستحواذ على أرض الحزب الوطني المنحل بميدان التحرير، تلك البقعة التي شهدت انطلاق شرارة ثورة يناير وسقوط نظام مبارك.
وبينما يئن الاقتصاد المصري تحت وطأة الديون، تواصل السلطة سياسة "البيع بالقطعة" لأغلى أصول الدولة التاريخية والاستراتيجية، محولة ميدان التحرير -رمز الحرية- إلى منطقة أبراج وفنادق فاخرة للأثرياء فقط، في محاولة مفضوحة لطمس معالم الثورة ومحو ذاكرتها من عقول المصريين.
المزاد المفتوح: "كنز" القاهرة في مهب الريح
تقع الأرض على مساحة 16.5 ألف متر مربع في قلب القاهرة وتطل مباشرة على النيل، وهي موقع استراتيجي لا يقدر بثمن.
التنافس المحموم: تتسابق تحالفات تضم مستثمرين من الإمارات والسعودية وقطر، بالإضافة لشركات محلية، للفوز بـ"كعكة" التطوير التي تقدر استثماراتها بـ 5 مليارات دولار. النظام يروج للأمر كإنجاز استثماري، بينما هو في الحقيقة تفريط في أصل سيادي نادر لا يمكن تعويضه.
فشل سابق وإصرار على البيع: يأتي هذا الطرح الجديد بعد انسحاب تحالف "الشعفار" الإماراتي سابقاً بسبب تدهور قيمة الجنيه، مما يكشف هشاشة البيئة الاستثمارية واعتماد الحكومة على "سماسرة" العقارات بدلاً من التنمية الحقيقية. السلطة لا تبحث عن قيمة مضافة، بل عن "دولارات سريعة" لسد العجز.
مشروع "نايلوس": أبراج تناطح السحاب وتحجب النيل
تخطط الحكومة، عبر صندوقها السيادي "الغامض"، لتحويل الأرض إلى برجين شاهقين (75 طابقاً و50 طابقاً) يضمان فنادق وشققاً فندقية فاخرة.
عزل المواطن: هذا المشروع يعني عملياً حجب رؤية النيل عن المواطن البسيط في وسط البلد، وتحويل المنطقة إلى "جيتو" معزول للأثرياء والسياح، في تكريس لسياسة الفصل الطبقي التي ينتهجها النظام.
طمس الرمزية: بناء أبراج تجارية مكان مقر الحزب الوطني المحترق ليس مجرد استثمار، بل هو رسالة سياسية: "لقد محونا الماضي، والآن نبني فوقه خرسانة المال والسلطة". إنه انتقام معماري من ميدان التحرير وتفريغه من مضمونه الثوري.
صندوق مصر السيادي: "دكان" لبيع أصول الشعب
يتم تمرير هذه الصفقة عبر "صندوق مصر السيادي"، الكيان الذي أنشأه السيسي ليكون بعيداً عن رقابة البرلمان أو الأجهزة الرقابية التقليدية.
غياب الشفافية: تدار الصفقات في غرف مغلقة، ولا يعلم الشعب شيئاً عن شروط البيع أو نسب المشاركة الحقيقية إلا بعد فوات الأوان. الصندوق تحول إلى "دلال" يبيع أراضي الدولة ومبانيها التاريخية (مثل مجمع التحرير وأرض الحزب) لسد ديون لا تنتهي.
بيع "التاريخ": التحذيرات تتصاعد من أن هذه السياسة لن تتوقف عند أرض الحزب، بل ستمتد لكل شبر له قيمة في مصر، ليتحول الوطن إلى مجرد "فرصة استثمارية" في نظر حكامه، وسلعة تباع لمن يدفع أكثر.
بيع الوطن.. متر تلو الآخر
إن طرح أرض الحزب الوطني للبيع ليس مجرد صفقة عقارية، بل هو جريمة في حق التاريخ والمستقبل. حكومة الانقلاب لا تبيع الأرض فقط، بل تبيع ذاكرة أمة وتفرط في "درة تاج" القاهرة لصالح مستثمرين يبحثون عن الربح السريع. في ظل هذا العبث، يبقى السؤال: ماذا سيتبقى للمصريين في بلدهم إذا بيعت أراضيهم، ومبانيهم، وتاريخهم، وحتى نيلهم، في مزادات "الجمهورية الجديدة"؟

