تكتب هبة جمال أن فهم المآسي الدامية في شمال السودان وجنوبه عبر عدسة فلسطين يقود أحياناً إلى استبدال “إسرائيل” بقوة خارجية أخرى تُحمَّل مسؤولية معاناة السودانيين، بينما تتجاهل هذه المقاربة تعقيدات الواقع السوداني نفسه. وتعتمد حركات التحرر على التعاطف والتضامن كركيزتين أساسيتين لأي نضال يواجه القمع. فالفلسطينيون لم يقاوموا الاحتلال وحدهم، بل ساندتهم موجات من التضامن العالمي التي كشفت واقعهم ودفعت نحو حريتهم.

 

وأشارت جمال في مقالها الذي نشره موقع العربي الجديد إلى أن فجوة الاهتمام العالمي بين فلسطين والسودان تكشف بنية أعمق من التمييز، إذ يحظى الفلسطينيون بقدر كبير من التعبئة العالمية، بينما يظل الإبادة في السودان أقل حضوراً بكثير في الوعي الدولي

 

تمييز يعيد إنتاج اللامساواة

 

تتعدد أسباب هذا التفاوت. يمتلك الفلسطينيون شبكة ضخمة من الشتات قادرة على إبقاء الانتباه العالمي موجهاً نحو قضيتهم، بينما يواجه السودانيون إرثاً من التهميش العرقي. يسهم العنصرية ومعاداة السود في تشكيل من يُرى كضحية ومن يغدو غير مرئي. يُنظر إلى الفلسطينيين أكثر فأكثر كأناس يُستحق التضامن معهم، بينما يُعامل الأفارقة السود كأنهم “معتادون” على العنف وعدم الاستقرار.

 

تستعيد الكاتبة مشهداً من فيديو حديث يظهر رجلاً يخاطب أطفالاً سودانيين نازحين، هاربين من الجوع والعنف، وينصحهم بالدعاء لفلسطين. يهز الأطفال رؤوسهم بصمت بينما يظل ألمهم غير معترف به. يكشف هذا المشهد لا تماثل واضحاً: أطفال يعيشون أهوالهم الخاصة يُطالَبون بالتركيز على مأساة يعترف بها العالم، بينما لا يجد العالم مساحة لرؤيتهم.

 

لا تتهم الكاتبة الرجل في الفيديو باللامبالاة، لكنها تحذر من أن مركزية فلسطين في خطاب التضامن الخاص بالسودان قد تعيد إنتاج ما يسميه الباحثان سينثوجان فاراثاس ومشْتاري هلال “هرميات التضامن”.

 

استغلال سياسي ومعرفي للمعاناة

 

يستغل عنصريون وصهاينة هذه الهرميات في الخطاب السياسي، فيتهمون المتضامنين مع فلسطين بأنهم لا يهتمون بالظلم إلا حين يكون الجاني يهودياً، وهي اتهامات زائفة تهدف إلى التهرب من مسؤولية الجرائم في فلسطين. لكن السؤال العميق يبقى: كيف يشعر شعب مضطهد يملك ظهوراً عالمياً محدوداً بينما يشهد تعبئة هائلة لقضية أخرى؟

 

لا يقدم الادعاء بأن غزة "أول إبادة تذاع مباشرة" إجابة. الإبادات في القرن الحادي والعشرين خضعت للتوثيق والرواية. المشكلة تكمن في كيفية وصول روايات المقهورين إلى الشاشات، وفي خوارزميات منصات التواصل التي تضخم ما يتوافق مع أطر الفهم الشائعة. يقل الظهور عندما يتراجع الاهتمام، كما حصل مع تراجع تغطية غزة بعد وقف إطلاق النار.

 

يتولد هنا واجب واضح: البحث عن المعلومة بشكل مقصود وعدم انتظار أن تقذفها الخوارزميات إلى شاشاتنا. التضامن مسؤولية واعية.

 

التضامن الواعي لا التضامن التفاعلي

 

بعد تزامن وقف إطلاق النار في غزة مع هجوم قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، بدأت تظهر منشورات عن السودان لأول مرة في مساحات واسعة من “إنستاجرام”، كأن السودان يملأ فجوة تركها القصف على غزة. يكشف هذا النمط عن تضامن تفاعلي تحكمه اللحظة، لا تضامن مقصود مبني على فهم.

 

أصبحت فلسطين مفهومة لدى كثيرين: استعمار استيطاني وإبادة بحق شعب أصيل. هذا الفهم تراكم لأن الناس بحثوا عن المعرفة ولم ينتظروا وصولها. تدعو الكاتبة الفلسطينيين والمتضامنين معهم إلى التحرك بالروح ذاتها تجاه السودان: أن يتعلموا عن القضية السودانية، أن يقفوا مع السودانيين، وأن يتجنبوا اختزال كل مأساة عبر فلسطين وحدها.

 

التضامن الحقيقي يرفض الهرميات ويعيد الاعتبار لكل معركة تحررية بخصوصيتها.

 

السودان ليس استعماراً بديلاً… إنه حرب مضادة للثورة

 

عندما يحاول البعض تفسير مآسي السودان كاستبدال “إسرائيل” بالإمارات، يضيع جوهر الصراع. صحيح أن الإمارات تدعم قوات الدعم السريع بالسلاح والمال وتتحمل مسؤولية أخلاقية وسياسية، لكن الواقع أكثر تركيباً. يشارك الجيش السوداني نفسه في ارتكاب الفظائع، ويخوض الطرفان حرباً مضادة للثورة تستهدف المدنيين في الخرطوم ودارفور وغيرها.

 

تفسير ما يحدث كاحتلال يختزل المشهد ويخفي تواطؤ قوى إقليمية وغربية تستفيد من الخراب السوداني، ما يجعل البشر في تلك البلدان شركاء في مسؤولية غير مباشرة. الفهم الدقيق يمنح النضال السوداني التعقيد الذي يستحقه، ويجعل التضامن أكثر وعياً ودقة.

 

المقارنات تظل جزءاً طبيعياً من التعبير عن التضامن، لكنها ينبغي أن تظل أفقية، قائمة على العدالة والإنسانية، لا على التقاطع الانتقائي الذي يكرس اللامساواة.

 

https://www.newarab.com/opinion/sudan-palestine-we-must-break-hierarchies-solidarity