في حلقة جديدة من مسلسل "الاستثمار الجائر" الذي يمارسه نظام عبد الفتاح السيسي ضد المساحات الخضراء والتراثية في مصر، تعيش منطقة الزمالك العريقة حالة من الغليان المكتوم، إثر تسريبات مؤكدة عن اعتزام السلطات تسليم "حديقة النهر" التراثية إلى جهة سيادية أو استثمارية جديدة، تمهيدًا لتحويلها إلى مجمع تجاري استهلاكي، على غرار ما حدث في حديقة المسلة وغيرها من حدائق القاهرة التاريخية.

 

يأتي هذا التحرك في ظل تعتيم حكومي كامل، حيث لم يصدر أي توضيح رسمي حول طبيعة "التطوير" المزعوم، وهو النهج الذي دأبت عليه حكومة الانقلاب في التعامل مع الأصول العامة: "فرض الأمر الواقع" بالجرافات أولًا، ثم تبرير الخراب لاحقًا تحت لافتة "الاستثمار ورفع الكفاءة".

 

"تنمية الزمالك" تقرع جرس الإنذار: لا تكرروا جريمة "المسلة"

 

جمعية "تنمية الزمالك"، التي تمثل صوت المجتمع المدني في الحي الراقي، خرجت عن صمتها ببيان شديد اللهجة، محذرة من تكرار سيناريو "حديقة المسلة" الكارثي. فالحديقة التاريخية التي كانت ملاذًا هادئًا، تحولت بعد "تطوير" الحكومة إلى ساحة صاخبة للمطاعم والمقاهي، فقدت معها هويتها التراثية وتحولت إلى "مول مفتوح" يخدم فئة محددة، ويحرم البسطاء من حقهم الدستوري في التنزه المجاني.

 

الجمعية طالبت بفتح نقاش مجتمعي علني قبل تحريك أي حجر في "حديقة النهر"، مشددة على ضرورة وضع تصور اقتصادي يحترم الطبيعة التراثية للمكان ولا يحوله إلى "سبوبة" تجارية. لكن المخاوف تتزايد من أن يكون القرار قد اتخذ بالفعل في الغرف المغلقة، وأن "البلدوزر" يستعد للتحرك لإزالة الأشجار المعمرة واستبدالها بالخرسانة ومحلات الوجبات السريعة.

 

بيزنس "الخرسانة" يغتال البيئة

 

تحت ذريعة "زيادة الغرف الفندقية وتنشيط السياحة"، تسعى حكومة السيسي إلى تحويل كل متر أخضر في القاهرة إلى مشروع تجاري يدر عائداً سريعاً، متجاهلة الآثار البيئية والعمرانية الكارثية. جمعية تنمية الزمالك نبهت إلى أن تحويل الحدائق التراثية إلى مرافق تجارية سيؤدي إلى "شلل مروري" تام عند مداخل الحي، الذي يعاني أصلًا من الاختناق، فضلاً عن فقدان المدينة لثروتها البيئية التي لا تقدر بثمن.

 

وأشارت الجمعية إلى القوانين التي يضرب بها النظام عرض الحائط، وتحديدًا اشتراطات "الجهاز القومي للتنسيق الحضاري" التي تمنع البناء على أكثر من 2% من مساحة الحدائق التراثية. لكن الواقع يشير إلى أن "تعليمات السيسي" تعلو فوق القانون، حيث يتم تجريف مساحات شاسعة وتغطيتها بالمباني والمنشآت الخرسانية، في انتهاك صارخ لحق المواطنين في البيئة وتشويه متعمد لوجه القاهرة الحضاري.

 

https://www.instagram.com/p/DRM9TFnDGxs/

 

حكومة "الجباية".. تحويل المتنزهات إلى سلع

 

السيناريو المتكرر في حدائق "الميريلاند" و"المسلة" و"الأورمان" و"الحيوان" يؤكد أننا أمام منهجية ثابتة: الدولة تنسحب من دورها في صيانة المتنزهات العامة، وتتركها للإهمال المتعمد لسنوات، ثم تطرحها "غنيمة" للمستثمرين والجهات السيادية ليديروها بمنطق "الجباية".

 

رد الحكومة المعتاد بأن المشاريع تجري "بموافقة التنسيق الحضاري" لم يعد يقنع أحدًا، خاصة بعدما رأى المصريون بأعينهم كيف تتحول الحدائق الغناء إلى كتل إسمنتية قبيحة ومواقف للسيارات. ما يحدث في "حديقة النهر" ليس مجرد تطوير، بل هو عملية "سطو" منظم على المجال العام، يحول حق المواطن في التنفس ورؤية النيل إلى "خدمة مدفوعة الأجر"، لا يملك ترفها إلا القلة، بينما يُحاصر السواد الأعظم من الشعب بين جدران الخرسانة وغلاء المعيشة.

 

إن معركة "حديقة النهر" هي معركة الرمق الأخير للدفاع عما تبقى من ذاكرة القاهرة الخضراء ضد جشع "مقاولين" يرتدون عباءة الدولة، ويرون في كل شجرة "عائقًا" أمام الاستثمار، وفي كل حديقة عامة "فرصة ضائعة" لجني الأموال.