أثارت صورة طفلة صغيرة من محافظة المنوفية، جلست على رصيف تتابع بشغف افتتاح المتحف المصري الكبير عبر شاشة عرض بأحد الميادين، موجة واسعة من التعاطف على مواقع التواصل الاجتماعي، في مشهدٍ اختصر مأساة جيلٍ كامل.
لم تكن الطفلة تعلم أن عينيها المندهشتين من أضواء الافتتاح تختزلان قصة بلدٍ بأكمله، بلدٍ يُزيَّن بالحجر بينما يئن الإنسان في الظل.
حجر يلمع.. وإنسان يختفي
بينما كانت كاميرات الإعلام تلتقط صور الرخام الفاخر والواجهات المبهرة، كانت عيون المصريين العاديين تتابع من بعيد، من المقاهي، ومن البيوت المتداعية، ومن الأرصفة التي أصبحت مأوى لأحلامٍ مؤجلة.
المتحف المصري الكبير، الذي تجاوزت كلفته ملياري دولار (نحو 94 مليار جنيه مصري)، تحوّل من مشروع ثقافي إلى رمزٍ فاضحٍ لاختلال أولويات الدولة، في وقتٍ يعيش فيه أكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر، وتنهار فيه العملة المحلية وتتصاعد الأسعار بلا سقف.
في مقابل هذا الإنفاق المفرط، يعيش ملايين المصريين في معاناة يومية مع الغلاء، وفقدان الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والسكن.
المتحف الكبير.. مشروع بلا جدوى أم مسرح سياسي؟
لم يكن المشروع في بداياته مجرد مبادرة حضارية لتخليد تاريخ مصر القديم، بل تحوّل تدريجيًا إلى أداة سياسية لتجميل صورة النظام في الخارج، خصوصًا بعد سنواتٍ من الأزمات الاقتصادية والانتهاكات الحقوقية.
فمنذ اللحظة الأولى، بدا أن الهدف هو صناعة مشهد عالمي يلمع في الكاميرات أكثر من تقديم رؤية ثقافية حقيقية تخدم المواطن.
تأكيد ذلك جاء حتى من داخل النظام نفسه. فالعالم الأثري زاهي حواس، أحد أبرز المدافعين عن السلطة، صرّح بوضوح: "لم أكن أرى أي أهمية لإنشاء المتحف المصري الكبير، وكان يمكن الاكتفاء بتطوير متحف التحرير، ولن يعيد ما أُنفق عليه ولو بعد 500 سنة".
كلمات حواس كانت كافية لتفجير الجدل من جديد، لأنها صدرت من رجلٍ ارتبط اسمه لعقودٍ بالآثار المصرية والنظام الحاكم. إنها شهادةٌ من الداخل على عبثية المشروع وجدواه المفقودة.
مليارات في الرخام.. وأحلام تذوب في الغلاء
تكلفة المتحف التي تجاوزت ملياري دولار لم تكن مجرد رقمٍ في الموازنة، بل كانت تعني حرمان قطاعاتٍ كاملة من الاستثمار والتنمية.
بهذا المبلغ، كان يمكن بناء 500 مصنع صغير وتشغيل أكثر من 100 ألف عامل، إلى جانب استفادة نحو 250 ألف أسرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
لكن ما حدث هو العكس: تم إنفاق المليارات على واجهات من الزجاج والرخام، بينما أُغلقت آلاف الورش والمصانع بسبب غلاء الطاقة وضعف السوق المحلي.
في النهاية، خرج المشروع كصورة فاخرة تُبهر الزائر الأجنبي، لكنها لا تُشبع جوع المواطن ولا تداوي قهره.
الاحتفالات.. أفيون السلطة الجديدة
لم يكن افتتاح المتحف حدثًا معزولًا، بل حلقة جديدة في سلسلة من المهرجانات الرسمية التي تُقام وسط انهيار اقتصادي غير مسبوق.
فمن مؤتمر "مصر بلد السلام" إلى احتفالات شرم الشيخ، تُصرف الملايين على تنظيماتٍ بروتوكولية، بينما يعيش المواطن صراعه اليومي لتأمين احتياجاته الأساسية.
إنها سياسة قائمة على "الإبهار بدل الإعمار"، حيث يُعوِّض النظام فشله في تحسين المعيشة بمشاهد دعائية ضخمة تُخاطب الخارج، لا الداخل.
فما أسهل أن يُنفق النظام على إضاءة مبنى، وما أصعب أن يُضيء حياة إنسان.
الشرعية من الرخام والمجد من ورق
يحاول النظام منذ أكثر من عقد، إعادة إنتاج شرعيته من خلال الحجر لا عبر الإنسان. فعندما تفشل السياسة في تحقيق الرضا الشعبي، يُعاد إحياء رمزية الفرعون عبر صروحٍ عملاقة تذكّر الناس بعظمة الماضي، في محاولةٍ لتعويض غياب الحاضر.
لكن هذه السياسة لا تُخفي الحقيقة: فالمتحف المصري الكبير، رغم ضخامته المعمارية، يعكس هشاشة الوعي الوطني حين يُقدَّم الرخام على الكرامة، والمجد الدعائي على العدالة الاجتماعية.
مصر التي تتجمّل وهي تنزف
في بلدٍ يترنح تحت الديون، وتغيب فيه العدالة الاجتماعية، يصبح افتتاح المتحف الكبير مشهدًا من التناقض الوطني المؤلم.
فبينما تتغنى الدولة بـ"عودة الحضارة المصرية إلى الواجهة"، يغرق المواطن في معركة البقاء، ويعجز الشباب عن إيجاد فرصة عمل أو سكن لائق.
تتحول الكاميرات لتصوير الواجهة الزجاجية المبهرة، بينما تبقى مصر الحقيقية خلف العدسات: مصر التي تنزف فقراً، وتختبئ تحت طبقة من الرخام البارد.
متحف للتاريخ أم شاهد على السقوط؟
سيبقى المتحف المصري الكبير واحدًا من أكبر المشاريع الثقافية في الشرق الأوسط، لكنه سيبقى أيضًا شاهدًا على مرحلةٍ من الإسراف والاستعراض على حساب الإنسان. فالتاريخ لا يُقاس بحجم المباني، بل بكرامة من يعيش داخلها.

