يُروى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه رفض السماح للصحابة بأخذ مال من بيت مال المسلمين لشراء كسوة جديدة للكعبة لما تقطعت الكسوة القديمة، قائلاً مقولته الخالدة: "بطون أيتام المسلمين أولى".
هذه المقولة تلخص جوهر الحكم الرشيد: أن الأولوية المطلقة هي لسد جوع الرعية وتوفير حاجاتها الأساسية قبل أي مظهر من مظاهر الترف أو التباهي.

على النقيض تمامًا، يقف المشهد الحالي في مصر، حيث تتجه مليارات الدولارات نحو مشاريع عملاقة مثل المتحف المصري الكبير، بينما تعاني "بطون المصريين الفارغة والجائعة" وتتدهور مستشفياتهم.

هذا التقرير يقارن بين أولويات الحاكم الذي يخشى على رعيته، وبين أولويات نظام يركز على تحسين صورته الدولية على حساب حياة مواطنيه.
 

الأولوية المطلقة: بين سد الجوع وتشييد الصروح
تكمن المفارقة الجوهرية في التباين الصارخ بين المبدأ الذي أرساه عمر بن الخطاب والممارسة المتبعة في مصر اليوم.
ففي عهد عمر، كانت الكعبة، أقدس بقاع الأرض، تخضع لأولوية حاجة الإنسان. رفض الخليفة الإنفاق على كسوة رمزية، حتى لو كانت للكعبة، لأن الجوع والمرض يمثلان خطرًا وجوديًا على الرعية.

في المقابل، يصر النظام الانقلابي الحالي بقيادة السيسي على ضخ استثمارات هائلة في مشاريع تهدف في المقام الأول إلى تحسين الصورة الدولية وجذب السياحة، مثل المتحف المصري الكبير الذي تجاوزت تكلفته 2 مليار دولار.
هذا الإنفاق الباذخ يتم في وقت تعاني فيه مصر من أزمة اقتصادية خانقة، وارتفاع غير مسبوق في معدلات الفقر، وتدهور في الخدمات الأساسية.
إنها معادلة مقلوبة: التضحية بـ "بطون المصريين" من أجل "صورة النظام".
 

الديون والتبذير: عبء الأجيال القادمة
إن تمويل هذه المشاريع العملاقة لم يأتِ من فائض في الميزانية، بل جاء في معظمه عبر الاقتراض الخارجي، مما أدى إلى تضخم الدين العام.
وصل الدين الخارجي لمصر إلى مستويات قياسية، متجاوزًا 161 مليار دولار في الربع الثاني من عام 2025.

هذا التبذير في الإنفاق على مشاريع "الواجهة" يمثل عبئًا ثقيلاً على الأجيال القادمة، التي ستتحمل سداد ديون لم تُنفق على تحسين حياتها أو مستقبلها.
فبينما كان عمر بن الخطاب يخشى على مال المسلمين من الإنفاق في غير محله، يصر النظام الحالي على استنزاف ثروات البلاد واقتراض المزيد، ليجعل المصريين يسددون ديونًا نتجت عن "تبذير وتحسين صورة" لا عن تنمية حقيقية ومستدامة.
 

المستشفيات البالية وأدوية الأنيميا: ثمن الأولوية الخاطئة
يظهر الثمن الحقيقي للأولوية الخاطئة في حالة الخدمات الأساسية التي تمس حياة المواطن بشكل مباشر. ففي الوقت الذي يُنفق فيه مليارات الدولارات على المتحف، تعاني المستشفيات البالية من نقص حاد في التجهيزات، وتواجه أزمة نقص الأدوية الحيوية.

إن أزمة نقص أدوية الأنيميا والكلى، مثل عقار الإريثروبيوتين، التي تهدد حياة عشرات الآلاف من المرضى، هي دليل صارخ على أن الصحة والتعليم ليسا ضمن أولويات النظام.
فلو أن جزءًا بسيطًا من تكلفة المتحف وُجّه لتحسين البنية التحتية الصحية أو توفير الأدوية الحيوية، لكانت حياة هؤلاء المرضى قد تغيرت جذريًا.

إن ترك المرضى يواجهون "الموت البطيء" بسبب نقص الدواء، بينما يُحتفل بـ "أضخم مجمع متحفي"، هو إدانة أخلاقية لا يمكن تبريرها.
 

وفي النهاية فإن المقارنة بين نهج عمر بن الخطاب ونهج النظام الحالي في مصر ليست مجرد مقارنة تاريخية، بل هي مقارنة بين مبدأين متناقضين في الحكم.
فبينما يرى عمر أن سد جوع الرعية هو جوهر الحكم، يرى النظام الحالي أن تحسين الصورة الدولية هو الأولوية القصوى، حتى لو كان الثمن هو تدهور معيشة المواطنين وتراكم الديون.

إن المتحف المصري الكبير، بكل عظمته، يقف اليوم كرمز لهذا التناقض، صرح ضخم بُني على أكتاف الديون وفي ظل "بطون فارغة" ومستشفيات بالية، ليؤكد أن أولويات الحاكم هي التي تحدد مصير الأمة.