في الأنظمة الديكتاتورية، لا تنتهي حدود القمع عند أسوار السجون ولا تقف عند حواجز الوطن، بل تمتد حيثما يفرّ المواطنون بحثًا عن الأمان.
هكذا يبدو حال النظام العسكري بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي لم يكتفِ بتكميم الأفواه داخل البلاد، بل مضى في تصدير سياساته الأمنية إلى الخارج، ساعيًا لملاحقة خصومه حتى في المنافي البعيدة والآمنة والتي تحرم الانشطة السياسية.
الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها كوريا الجنوبية، اعتراضًا على رفض طلبات لجوء مصريين، ليست سوى حلقة جديدة من مسلسل المطاردة السياسية العابرة للحدود، تُظهر كيف يسعى النظام لتقويض آخر ملاذات الحرية أمام من نجا من قبضته الحديدية.
من ميادين الثورة إلى شوارع سيول
بحسب تقرير نشرته صحيفة عربية، تصاعدت الاحتجاجات في كوريا الجنوبية بعد رفض السلطات هناك طلبات لجوء عدد من المصريين الهاربين من الملاحقات الأمنية في بلادهم.
هؤلاء اللاجئون لم يهربوا من حرب أهلية ولا من كارثة طبيعية، بل من نظام سياسي يعتبر الرأي المستقل جريمة.
سنوات من الاعتقالات، والإخفاء القسري، والمحاكمات الاستثنائية دفعت آلاف الشباب إلى الهجرة القسرية، غير أن النظام – كما يبدو – لا يكتفي بطردهم من وطنهم، بل يسعى لأن يُغلق في وجوههم أبواب اللجوء الدولي.
الضغوط المصرية على الحكومات الأجنبية، ومنها كوريا الجنوبية، تمثل تدخلاً فجًّا في السيادة القانونية لتلك الدول، ومحاولة لتمديد رقعة القمع خارج الحدود.
دبلوماسية القمع... من القاهرة إلى العواصم الأجنبية
منذ 2014، انتهج نظام السيسي سياسة موازية للدبلوماسية التقليدية، قوامها النفوذ الأمني بدل التعاون الإنساني.
تُوجَّه السفارات المصرية في الخارج أحيانًا كأذرع استخباراتية لملاحقة المعارضين، أو الضغط على الدول التي تستضيفهم، مستخدمة ورقة “التعاون الأمني” و”مكافحة الإرهاب” ذريعةً لتبرير تدخلاتها.
وفي كوريا الجنوبية اليوم، يتكرّر المشهد ذاته الذي سبق أن شهدناه في تركيا، وماليزيا، والسودان قبل الحرب، وحتى في بعض الدول الأوروبية، حيث عملت السفارات المصرية على تشويه صورة طالبي اللجوء، بزعم انتمائهم إلى جماعات “محظورة” أو “إرهابية”.
هكذا تتحول وزارة الخارجية إلى أداة قمع دولي، تلاحق المصريين الأحرار بدل أن تحميهم، وتدافع عن السلطة بدل أن تصون كرامة مواطنيها.
سوابق دامية... سجلٌ ممتد من المطاردة
منذ انقلاب يوليو 2013، شهدت مصر واحدة من أوسع حملات القمع في تاريخها الحديث.
- أكثر من 60 ألف معتقل سياسي بحسب منظمات حقوقية.
- عشرات حالات الإعدام الجماعي بعد محاكمات تفتقر لأبسط معايير العدالة.
- مئات حالات الإخفاء القسري
ومع تصاعد الضغوط الدولية، بدأ النظام في تصدير هذا القمع إلى الخارج، فطارد الصحفيين والمعارضين في المنافي، وسعى لاستردادهم عبر الإنتربول أو صفقات أمنية مع بعض الحكومات.
من أبرز هذه الوقائع:
- تسليم السودان معارضين مصريين عام 2016 بعد ضغوط من القاهرة.
- ترحيل ماليزيا لعدد من الطلبة المصريين عام 2019.
- توقيف معارضين في تركيا قبل أن يتم إطلاق سراحهم تحت ضغط الرأي العام.
الرسالة واحدة: لا أمان خارج مصر لمن يعارض النظام.
اللاجئون بين مطرقة القاهرة وسندان الصمت الدولي
اللاجئون المصريون اليوم يواجهون مأزقًا مزدوجًا: بطش النظام من جهة، وتواطؤ بعض الحكومات من جهة أخرى.
فبينما تعلن الأمم المتحدة أن الحق في اللجوء مكفول لكل من يتعرض للاضطهاد، تتنصل بعض الدول من التزاماتها خوفًا من خسارة العلاقات مع القاهرة.
بهذا المعنى، يتحوّل اللجوء الإنساني إلى ورقة سياسية، وتُختزل معاناة المظلومين في حسابات دبلوماسية باردة.
ورغم احتجاجات الجاليات المصرية في الخارج، إلا أن غياب التضامن الدولي الفعّال يُعطي السيسي ضوءًا أخضرًا للاستمرار في انتهاكاته، مطمئنًا إلى أن العالم سيتغاضى مقابل “التعاون الأمني” أو “صفقات السلاح”.
قمعٌ عابر للحدود.. وهشاشة لا تخفى
إصرار السيسي على مطاردة معارضيه في الخارج ليس دليل قوة، بل علامة ضعف وخوف.
النظام الذي يضيق بصوت في المهجر لا يثق بنفسه ولا بشعبه، ويدرك أن شرعيته قائمة على القهر لا القبول.
القمع العابر للحدود هو الوجه الآخر لانغلاق الداخل، حيث تُختزل الدولة في شخص الحاكم، وتُختزل السياسة في الولاء.
ومع اتساع الفجوة بين السلطة والمجتمع، يتحوّل الحكم إلى كيانٍ زجاجي هش، يخشى النقد كما يخشى الحقيقة.
وفي النهاية فإن ما يجري اليوم ليس مجرد تضييق على لاجئين، بل فضيحة أخلاقية وسياسية لنظامٍ حول الدولة المصرية إلى مؤسسة أمنية عابرة للحدود.
لقد صار المواطن المصري مطاردًا في وطنه ومنفاه معًا، بلا حق في الكلام ولا في الصمت، في نموذج يختصر كيف استطاع نظام السيسي أن يصادر الوطن بأكمله ليحكمه الخوف.
لكن التاريخ علمنا أن الطغاة، مهما امتدت أذرعهم، لا يستطيعون اعتقال الأمل، وأن الحرية وإن نُفيت مؤقتًا، فإنها ستعود يومًا لتكتب نهاية كل جلاد.