تبدو انتخابات مجلس النواب المصري 2025 كصورة متكررة من مشهد سياسي مُغلق، تُدار فيه المنافسة بالأوراق لا بالأفكار، وبالتحاليل لا بالبرامج.
فبدلاً من التنافس الحر بين رؤى وبرامج، تتوالى قرارات استبعاد مرشحين معارضين تحت ذرائع قانونية أو إجرائية ظاهرها النظام، وباطنها السياسة.

من “ورقة الجيش” إلى “تحاليل المخدرات”، ومن “نقص المستندات” إلى “التفسيرات المتشددة للنصوص”، تتجلى سياسة الإقصاء في أوضح صورها، لترسم ملامح برلمان صُمم مسبقًا لخدمة السلطة، لا لتمثيل الشعب.
 

ورقة الجيش.. من خدمة الوطن إلى ذريعة للإقصاء
في مشهدٍ صادم، استبعدت الهيئة الوطنية للانتخابات الدكتور أحمد الشربيني، مرشح حزب الدستور والطريق الحر، رغم تأديته الخدمة العسكرية الإلزامية وكونه على قوة الاحتياط.
المحامي الحقوقي خالد علي وصف القرار بأنه «توسع غير مبرر في تفسير النص القانوني»، موضحًا أن بقاء المرشح على قوة الاحتياط لا يعني أنه غير مؤدٍ للخدمة.

وقال علي: “هذا التوسع فى تفسير النص القانوني قد يحرم الشباب من فرص الترشح، فمدة الخدمة العسكرية لا تقل عن سنة وتصل إلى ثلاث سنوات، ومدة الاحتياط تسع سنوات تبدأ بعد انتهاء الخدمة. أي أن الطبيب مثل الدكتور الشربيني لن يتمكن من الترشح قبل بلوغه 36 أو 39 عامًا. أظن أن المشرع لم يقصد هذا التفسير، فما الذي يضير البرلمان إن نجح نائب وهو على قوة الاحتياط؟”.

القضية أثارت جدلاً واسعًا بين الحقوقيين، إذ اعتُبرت «ورقة الجيش» أداة إقصاء ممنهجة تُستخدم سياسياً لحرمان فئة كاملة من الشباب والمعارضين المدنيين من ممارسة حقهم الدستوري في الترشح، وتحويل شرط الخدمة العسكرية إلى فخ قانوني يقضي على أي محاولة للمشاركة المستقلة.

وفي السياق ذاته، شهدت الإسكندرية فصلًا جديدًا من معركة الإقصاء حين قضت الدائرة (53) بمحكمة القضاء الإداري بقبول دعوى المهندس هيثم الحريري شكلاً ورفضها موضوعًا، في الطعن الذي قدمه على قرار استبعاده من الترشح لانتخابات مجلس النواب 2025 بدائرة محرم بك (رقم 4).

الحريري — وهو عضو مجلس النواب السابق — كان قد أقام الدعوى رقم 1310 لسنة 80 ق ضد رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات ورئيس اللجنة العامة بمحافظة الإسكندرية، مطالبًا بوقف قرار استبعاده مؤكدًا استيفاءه لكافة المستندات القانونية.

وخلال جلسة المحاكمة، أوضح ممثل الهيئة أن سبب الاستبعاد هو استثناء الحريري من الخدمة العسكرية، معتبرًا أن الاستثناء لا يُعادل الإعفاء، فيما رد الحريري بأنه تقدّم للخدمة في أكتوبر 1999 وتم استثناؤه بقرار من وزير الدفاع في يوليو 2000، معلنًا عزمه على الطعن أمام المحكمة الإدارية العليا.

هذا الحكم، بحسب مراقبين، أضفى بعدًا قانونيًا جديدًا على قضية “ورقة الجيش”، وأكد أن هذا الشرط تحوّل فعليًا إلى أداة سياسية لإقصاء الأصوات المستقلة والمعارضة من المشهد الانتخابي.
 

إقصاء بلا إخطار.. “رسالة سياسية” من هيئة الانتخابات
لم يقتصر الإقصاء على “ورقة الجيش”، فقد كشف المحامي الحقوقي أحمد فوزي عن استبعاد المهندس هيثم الحريري، مرشح حزب التحالف الشعبي الاشتراكي بدائرة محرم بك وكرموز في الإسكندرية، وكذلك الأستاذ محمد عبد الحليم، مرشح الحزب عن دائرة بندر المنصورة، من الكشوف المبدئية دون إخطار أو أسباب.

وقال فوزي: “هذه قرارات سياسية أكثر منها قانونية. الهيئة الوطنية لم تُخطر المرشحين بأي مبرر رغم استيفائهم المستندات كاملة. الرسالة واضحة: لا نريد من يشارك إلا من يطبل”.
وأوضح أن استبعاد المرشحين اليساريين يُعبّر عن توجّهٍ ممنهج لإقصاء القوى الديمقراطية التي قبلت خوض الانتخابات رغم التضييق. وأضاف: “حتى من يقبل المشاركة يتحمل النقد من الداعين للمقاطعة، ثم يُفاجأ بالإقصاء. الرسالة من السلطة واضحة: لا تشارك، لا نريد أصواتًا حقيقية”.

فوزي حذّر من أن إغلاق مسارات المشاركة السياسية يخلق «حالة من العدمية واليأس»، وأن البرلمان القادم «يُفصّل على مقاس الولاء لا المراقبة».
 

تحاليل المخدرات.. وصمة مفبركة لإسكات المعارضين
تزامن ذلك مع استخدام جديد للأداة القديمة: “تحاليل المخدرات”.
فقد أظهرت وقائع الانتخابات استبعاد مرشحين بدعوى وجود نتائج “إيجابية”، رغم أن بعضهم أثبت عكس ذلك بتحاليل مكررة.

رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي مدحت الزاهد كشف عن تناقض في نتائج تحليل المخدرات الخاصة بالمرشح محمد عبد الحليم، قائلاً إن المركز نفسه أصدر نتيجتين متضادتين في التوقيت ذاته — واحدة إيجابية والأخرى سلبية — مما يؤكد أن «القرار سياسي لا طبي».

وأضاف الزاهد في تصريحات لموقع درب: “نحن أمام عملية انتخابية تُدار بعقل أمني لا سياسي. بعد غلق باب التعدد بالقائمة المطلقة، يجري الآن إقصاء المرشحين الفرديين واحدًا تلو الآخر، حتى لا يبقى سوى برلمان صامت مطواع”.

وأكد الزاهد أن ما يحدث يمثل “رسالة صريحة بإغلاق الباب أمام أي صوت معارض”، محذرًا من أن «الاستبعاد الممنهج يفرغ السياسة من معناها، ويفتح نوافذ الغضب بدلًا من مسارات المشاركة».
 

برلمان مُعدّ سلفًا.. لا صوت يعلو فوق صوت الولاء
تتفق تصريحات الحقوقيين والمعارضين على أن ما يجري ليس مجرد تضييق انتخابي، بل «عملية تصفية سياسية» تستهدف فكرة المعارضة ذاتها.
فمن يُقصى بورقة التجنيد، أو بخطأ قانوني، أو بتحليل مخدرات مشكوك فيه، يواجه منظومة مصممة لإنتاج برلمان بلا مساءلة.
أحد قادة المعارضة وصف المشهد بقوله:“نحن أمام إعادة إنتاج لبرلمان الولاء، حيث تُغلق أبواب السياسة، وتُفتح نوافذ الغضب”.

وفيما يواصل المرشحون المستبعدون — مثل هيثم الحريري ومحمد عبد الحليم وأحمد الشربيني — معاركهم القانونية أمام مجلس الدولة، يبقى السؤال الأكبر معلقًا: هل ما زالت هناك منافسة حقيقية تُدار في مصر، أم أن نتيجة السباق تُكتب قبل أن تبدأ؟