في مشهد يعيد إنتاج خطاب السلطة ضد الذاكرة الشعبية، أطلق قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، خلال الندوة التثقيفية الـ42 للقوات المسلحة بمناسبة ذكرى انتصارات أكتوبر، تصريحات حادة تجاه ثورة يناير 2011، واصفًا إياها بأنها "شكل من أشكال الحرب" التي مرت بها مصر، محمّلًا إياها مسؤولية الفوضى والانهيار الذي أعقبها.
السيسي، الذي تحدث أمام قيادات عسكرية ومسؤولين في مشهد مفعم بالرمزية السياسية، لم يكتفِ بانتقاد الثورة، بل وضعها في خانة المؤامرة، مؤكدًا أن البلاد نجت منها بـ"كرم من الله"، وأن "يد الله كانت مع مصر طوال 15 سنة مضت"، وهي عبارة تتكرر في خطاباته كلما أراد نسب النجاة من الكوارث إلى العناية الإلهية، لا إلى السياسات أو المؤسسات.
اتهام الثورة بالحرب والفوضى
قال السيسي إن ما حدث في 2011 لم يكن "ثورة عادية"، بل "شكل من أشكال الحرب"، معتبرًا أن ما جرى كان اختبارًا وجوديًا لمصر. وأضاف أن "الكرم الإلهي" وحده أنقذ البلاد من مصير مشابه لدول انهارت في الفوضى أو الحروب الأهلية. لكنه، في المقابل، تجنب الحديث عن الأسباب العميقة التي فجّرت الثورة — من ظلم وقمع وفساد واستبداد — مكتفيًا بإدانة نتائجها.
وحين شدد على أن "من يعيش المآسي ليس كمن يرويها"، بدا كأنه يوجه اللوم إلى جيل كامل من الشباب الذي خرج للمطالبة بالحرية والعدالة، محوّلًا المطلب الشعبي إلى “خيانة” أو “حرب داخلية”. وهو خطاب ينسجم مع رواية النظام منذ 2013، التي تسعى إلى شيطنة يناير وإعادة كتابة التاريخ الرسمي على مقاس السلطة.
التهرب من المسؤولية وتحميل الماضي كل الأوزار
لم يكن اتهام الثورة بالخراب جديدًا، لكن اللافت أنه جاء في وقت تتعمق فيه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد بصورة غير مسبوقة. فبينما يتحدث السيسي عن "الخراب الذي سببته يناير"، يعيش المصريون اليوم تحت وطأة تضخم قياسي، وديون خارجية متراكمة، وبيع لأصول الدولة تحت شعار “الإصلاح الاقتصادي”.
ورغم هذا الواقع، يصرّ السيسي على تقديم نفسه بوصفه "المنقذ" الذي تجنب بالبلاد مصير الانهيار، متجاهلًا أن كثيرًا من السياسات التي تبناها – من عسكرة الاقتصاد إلى قمع الحريات – هي التي دفعت مصر نحو انسداد سياسي واقتصادي غير مسبوق.
"يد الله" والواقع المنهك
في خطابه، حاول السيسي إقناع الجمهور بأن مصر نجت بفضل "عناية الله" وليس بسبب السياسات الحكومية، داعيًا المصريين إلى "شكر الله" على ما تمر به البلاد من "استقرار". لكن هذا “الاستقرار” في نظر كثير من المراقبين ليس سوى جمود سياسي يرافقه قمع واسع، وانكماش اقتصادي يعصف بالطبقات الفقيرة والمتوسطة.
فبينما يتحدث السيسي عن “كرم الله” الذي أنقذ مصر، يجد المواطن نفسه في طوابير العيش والوقود، ويواجه انهيار العملة وتآكل الدخل. هذا التناقض بين الخطاب الديني للنجاة والواقع المعيشي المأزوم يفضح مفارقة جوهرية في منطق السلطة: فبدل الاعتراف بفشل السياسات، تُحمّل المسؤولية للتاريخ أو للثورة أو “لإرادة الله”.
إعادة إنتاج رواية الخوف
تأكيد السيسي على أن ما جرى في 2011 كان "حربًا داخلية" يعكس رؤية أمنية بحتة للمجتمع والسياسة. فبدل أن يرى في الثورة تعبيرًا عن إرادة شعبية، يتعامل معها كتهديد ينبغي ألا يتكرر. هذا الخطاب يسعى إلى تكريس الخوف من التغيير، وتثبيت فكرة أن أي محاولة للاحتجاج أو المطالبة بالإصلاح تعني "الفوضى" أو "الخراب".
وبذلك، يستمر السيسي في ترسيخ معادلة “الأمن مقابل الحرية”، التي استخدمها لتبرير القبضة الأمنية وتقييد المجال العام. وبينما يتحدث عن إنقاذ البلاد من الحرب الأهلية، يعيش المصريون اليوم حالة من القهر السياسي والانكماش الاقتصادي تجعلهم يشعرون أن “السلام” الذي يروّج له ليس سوى غطاء لحالة احتقان مكتوم.
ختاما فخطاب السيسي في ذكرى أكتوبر لم يكن مجرد استحضار للماضي، بل استمرار لمعركة سياسية ضد ذاكرة يناير، وضد فكرة التغيير نفسها. فبينما يحمّل الثورة مسؤولية الخراب، يتجاهل أن الأزمات الراهنة – من الديون إلى انهيار الخدمات – هي نتاج مباشر لعقد من الحكم الفردي.
بهذا المعنى، لم يكن السيسي في ندوتِه يستعيد “الانتصار” بقدر ما كان يعلن هزيمة الثورة، محاولًا إقناع المصريين بأن طريق الخلاص يمر فقط عبر الخضوع للنظام القائم، لا عبر الثورة عليه.