تشهد مدينة العريش في محافظة شمال سيناء تصاعدًا خطيرًا في حالة الانفلات الأمني خلال عام 2025، رغم التصريحات الرسمية المتكررة عن تحقيق الاستقرار و«عودة الحياة إلى طبيعتها». الواقع على الأرض يكشف عكس ذلك تمامًا؛ إذ تعيش المدينة على وقع اشتباكات مسلحة شبه يومية بين مجموعات خارجة عن القانون، تمتلك سيارات دفع رباعي ومعدات ثقيلة، وتتحرك بحرية في وضح النهار تحت غطاء قبلي وأمني غير معلن. هذه الجماعات، التي يُنظر إليها كأذرع غير رسمية للنظام، تمارس عمليات اختطاف وقتل وسط صمت السلطات، ما جعل سكان العريش يعيشون في خوف دائم.

 

حادثة مقتل ياسر أبو عمرو: رصاصة تكشف بنية التحالفات المسلحة

 

أعادت حادثة مقتل الشاب ياسر فراس أبو عمرو برصاصة في الرأس على يد أحد قيادات "اتحاد قبائل سيناء" التابع لرجل الأعمال إبراهيم العرجاني، الجدل حول الدور الذي تلعبه هذه المليشيات القبلية المدعومة ضمنيًا من السلطة. فالاتحاد، الذي يقدَّم رسميًا كشريك في «الحرب على الإرهاب»، تحول عمليًا إلى قوة موازية للدولة تمتلك السلاح والنفوذ وتفرض هيمنتها على الأهالي.

 

العرجاني، الذي يُسوَّق له كحليف للدولة في مواجهة التطرف، بات اليوم — في نظر كثيرين من أبناء سيناء — رمزًا للفوضى الجديدة، بعدما تحولت مجموعاته إلى طرف مسلح يُرهب المدنيين بلا رادع. موجة الغضب الشعبي والاحتجاجات التي اجتاحت العريش مؤخرًا تعكس حجم الاحتقان المتنامي تجاه هذه الانتهاكات التي تهدد الأمن المجتمعي وتضعف سلطة الدولة.

 


الأمن في موقف المتفرج: تواطؤ أم عجز؟


تبدو الأجهزة الأمنية عاجزة — أو ربما متواطئة — أمام تغوّل هذه الجماعات. فحالات الإفراج السريع عن عناصر منتمين إلى تلك المليشيات بعد توقيفهم، إلى جانب الاعتداءات المتكررة على رجال الشرطة، تؤكد وجود خلل عميق في المنظومة الأمنية.

 

كما شهدت المدينة اعتصامات متكررة لضباط وأفراد الشرطة احتجاجًا على غياب الدعم اللوجستي ونقص الأسلحة والمعدات الحديثة، في وقت يتزايد فيه نفوذ المجموعات المسلحة. هذا التناقض الفاضح بين ضعف الدولة وتوسع المليشيات يطرح تساؤلات حول دور الحكومة الحقيقي في ترسيخ الأمن أو تقويضه.

 

خطاب رسمي مضلل وواقع ميداني منفلت

 

في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة الترويج لخطاب «الاستقرار الأمني في سيناء»، تبدو مسؤوليتها المباشرة عن الفلتان الأمني واضحة للعيان. فدعم مجموعات قبلية مسلحة تحت غطاء «محاربة الإرهاب» لم يحقق الأمن، بل أسس لواقع من انعدام القانون، تُمارس فيه السلطة بالعنف لا بالمؤسسات.

 

إن توفير السلاح والحماية لهذه الكيانات القبلية أوجد شبكات نفوذ خارجة عن الدولة تتحكم في مصائر الناس، لتتحول سيناء إلى اختبار حقيقي لمدى جدية الحكومة في محاربة الجريمة المنظمة واستعادة هيبة الدولة.

 

انتهاكات ممنهجة وصمت رسمي

 

تُوثّق منظمات حقوق الإنسان في شمال سيناء حالات قتل خارج القانون، واختفاء قسري، وإعدامات ميدانية تُنسب إلى هذه المجموعات المسلحة، وسط صمت رسمي مريب. هذا التواطؤ يفاقم الإحباط الشعبي، خاصة في صفوف الأهالي الذين خاضوا لسنوات حربًا ضد الإرهاب، ليجدوا أنفسهم اليوم ضحايا لقوى مسلحة محلية تحظى بحماية ضمنية من الدولة.

 

أصبح سكان العريش يعيشون بين مطرقة المليشيات وسندان الصمت الحكومي، في مشهد يعكس انهيار الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة الأمنية.

 

فوضى العريش تكشف فشل الدولة في إدارة الملف السيناوي

 

لم تعد شمال سيناء تُصنَّف منطقة مستقرة كما يروج الخطاب الرسمي، بل منطقة مفلسة أمنيًا نتيجة دعم سياسي غير مباشر للشبيحة والمسلحين الذين يفرضون سيطرتهم على الأرض.

 

الحل الحقيقي، كما يؤكد خبراء محليون، لا يكمن في المزيد من التسليح القبلي أو الخطابات الإعلامية، بل في إلغاء أي وجود مسلح خارج مؤسسات الدولة، ومحاكمة المسؤولين عن الانتهاكات، وبناء جهاز أمني حقيقي يخضع للقانون لا للولاءات.

 

دولة تغض الطرف عن الفوضى

 

تحولت شمال سيناء إلى مرآة عاكسة للفشل الحكومي في حماية المواطنين وفرض سيادة القانون. فبين صمت رسمي وتواطؤ واضح، تتعمق الفوضى يومًا بعد يوم، مهددة ما تبقى من أمن وتنمية.

 

إن استمرار هذا النهج القائم على المحاباة القبلية والتحالفات المصلحية سيقود حتمًا إلى تفكك أمني أوسع، ما لم تستعد الدولة احتكارها للسلاح والقوة الشرعية، وتكف عن منح الغطاء السياسي والمالي لمليشيات تزرع الرعب بدل أن توفر الحماية.