في مشهد يعكس الانحدار الأخلاقي والتطبيع الفجّ، تحولت الإمارات، وعلى رأسها مدينة دبي، إلى الوجهة الأولى لجنود الاحتلال الإسرائيلي بعد انتهاء الحرب الأخيرة على غزة، تلك الحرب التي ارتكب فيها الجيش الإسرائيلي مجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، وأزهق خلالها آلاف الأرواح البريئة. فبينما لم تجف دماء الأطفال تحت أنقاض القطاع المحاصر، كانت أبواب الفنادق الإماراتية تُفتح على مصراعيها لاستقبال جنودٍ شاركوا في تلك الجرائم، في مشهدٍ يجمع بين الفجور السياسي والانحدار الإنساني.

 

من ساحات القتل إلى المنتجعات الفاخرة

 

بعد أن وضعت الحرب أوزارها، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن حالةٍ نفسية متدهورة يعيشها الجنود، حيث وصفتهم التقارير بأنهم “يرون الجحيم في غزة”، نتيجة ما شهدوه من دمار وقتل. إلا أن “العلاج” لم يكن جلسات تأهيل نفسي أو مراجعة أخلاقية، بل رحلات ترفيهية جماعية إلى الإمارات، نظمتها شركات يديرها ضباط إسرائيليون سابقون، خصيصاً لرفع الروح المعنوية للمشاركين في العدوان.

 

الإمارات، التي كان يفترض بها أن تكون دولة عربية ذات موقف قومي تجاه القضية الفلسطينية، تحولت إلى منصة لتجميل وجه الاحتلال وتلميع جنوده. فهؤلاء الذين دمروا المساجد والمنازل واعتقلوا المدنيين، وجدوا في دبي ملاذاً للاسترخاء والتقاط الصور عند برج خليفة وشواطئ جميرا، وكأنهم لم يشاركوا قبل أيام في محو مدنٍ بأكملها.

 

سياحة ملوثة بالدم

 

التقارير العبرية تحدثت عن تنظيم رحلات مخصصة لجنود وحدات قتالية شاركت في العدوان، مثل كتيبة المشاة 424 “شاكيد” التابعة للواء جفعاتي، ولواء المظليين، وكتيبة الهندسة القتالية “لاهف 603”.

 

من بين هؤلاء “أبراهام أوتمازغين”، جندي احتياط من أصل مغربي خدم في غزة، الذي نشر صوراً من إجازته في دبي بصحبة زملائه من الكتيبة نفسها.

 

كذلك جندي آخر من لواء المظليين، ظهر في فيديو أثناء استعراضه ملابس نساء فلسطينيات نهبها من منازلهم في خان يونس، قبل أن يعلن على إنستغرام أنه يقضي إجازته في دبي “ليطوي صفحة الحرب”!

 

أما الرقيب في كتيبة الهندسة الذي ظهر مبتسماً بجانب أنقاض مسجد دمره بعبارات “وداعاً أيها المسجد”، فقد استُقبل في الإمارات ضمن مجموعة من الجنود في رحلة سياحية إلى برج خليفة.

 

الشرطة الإسرائيلية على خط الترفيه الإماراتي

 

لم يقتصر الترحيب الإماراتي على جنود الجيش فحسب، بل شمل أيضاً عناصر من الشرطة الإسرائيلية، مثل “شاني جاناه” التي نشرت صوراً للفلسطينيين وهم مكبلو الأيدي ومجبرون على حمل العلم الإسرائيلي في الضفة الغربية، قبل أن تسافر إلى دبي لقضاء إجازتها.

 

وكيل العقارات الإسرائيلي “ياردن إيلوز”، الذي خدم في كتيبة 9208 بلواء جفعاتي، نشر صوراً مماثلة من رحلته إلى الإمارات، وكذلك الجندي “إيال هاكشير” الذي قاتل في غزة ثم ظهر مستمتعاً بإجازة فاخرة في فندق جميرا.

 

دبي.. جائزة الاحتلال بعد كل مجزرة

 

المشهد لا يمكن قراءته بمعزل عن سياسة التطبيع العميقة التي تبنتها الإمارات منذ اتفاق “أبراهام” مع الاحتلال. فبدلاً من أن تكون الإمارات منصة دعم للشعب الفلسطيني الذي يواجه الإبادة، أصبحت وجهة مفضلة لمن مارسوا القتل والتدمير، تقدم لهم التسهيلات السياحية والعروض المخفضة وكأنهم أبطال حرب عادلة.

 

إن تحويل المدن العربية إلى ملاهٍ لجنود الاحتلال يمثل سقوطاً أخلاقياً وسياسياً مدوّياً. فكيف يمكن لبلد عربي أن يفتح شواطئه ومطاعمه أمام من قتل أبناء غزة؟ وكيف يمكن لدولة تزعم “التسامح” أن تحتضن قتلة الأطفال وتمنحهم شعور الأمان والاحتفاء؟

 

رسالة تطبيع تتجاوز السياسة

 

الأخطر في المشهد أن هذا النوع من التطبيع يتجاوز الحكومات ليصل إلى المجتمع، إذ يجري الترويج لرحلات الجنود الإسرائيليين عبر مجموعات “فيسبوك” ومنصات ترفيهية إماراتية، وكأنهم سائحون عاديون لا يحملون على أيديهم دماء الفلسطينيين.

 

إن الإمارات، بسياساتها الحالية، لا تكتفي بتبييض صورة الاحتلال، بل تشارك فعلياً في محو الذاكرة العربية الجماعية تجاه جرائم إسرائيل. فحين يصبح برج خليفة بديلاً عن جلسة محاسبة، والشواطئ مكاناً لتأهيل المجرمين، فإن الصمت العربي يتحول إلى شراكة في الجريمة.

 

التطبيع المذلّ واستباحة القيم

 

ما يجري ليس مجرد “سياحة بعد الحرب”، بل تطبيع مقيت يكرس قبول العرب بالمجرم الإسرائيلي كضيف مرحب به. وفي الوقت الذي يدفن فيه الفلسطينيون شهداءهم، تُفرش السجاد الحمراء لجنود الاحتلال في دبي، ليعيشوا “جنة ما بعد الجحيم” على أرضٍ عربية خانت قضيتها.

 

بهذا المشهد، تؤكد الإمارات مرة أخرى أنها لم تعد تقف على الحياد، بل اختارت موقعها إلى جانب الجلاد ضد الضحية، لتتحول من دولة عربية إلى محطة غسيل لدماء الاحتلال.