في مشهد يعكس حالة التسيب المؤسسي وتهاوي معايير النزاهة داخل الجهاز الإداري للدولة، تحولت قضية حاتم زين العابدين رئيس حي شرق الإسكندرية إلى فضيحة مدوية هزّت الرأي العام، بعدما ألقي القبض عليه بعد 48 ساعة فقط من تعيينه، لتنفيذ حكم قضائي نهائي بالسجن المؤبد في قضية رشوة تعود إلى عام 2021.
هذه الواقعة الصادمة لم تكشف فقط عن تورط مسؤول جديد في الفساد، بل فضحت أيضاً خللاً خطيراً في منظومة الرقابة والتعيينات الحكومية، التي باتت – بحسب مراقبين – تُدار وفق الولاءات لا الكفاءات، وتكافئ الفاسدين بالمناصب بدلاً من محاسبتهم.
ترقيات فوق الأحكام القضائية
اللواء المتقاعد حاتم زين العابدين، الذي ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليه متلبساً قبل أعوام بتقاضي رشوة بلغت 200 ألف جنيه من مقاول مقابل تسهيل صرف مستخلصات مالية، لم يواجه عزلاً أو إقصاءً من الوظيفة كما تقتضي القوانين، بل استمر في مسار وظيفي صاعد. فبينما كانت محكمة جنايات باب شرقي تصدر حكماً غيابياً ضده بالسجن المؤبد في أبريل 2025، كانت الدولة تترقى به من موقع إلى آخر: من رئاسة مركز ومدينة برج العرب، إلى رئاسة حي وسط الإسكندرية، ثم حي شرق، قبل أن يتم القبض عليه في مكتبه الجديد بعد يومين فقط من توليه المنصب.
تواطؤ إداري وغياب للرقابة
هذه الواقعة تطرح تساؤلات مؤلمة: كيف يتم تعيين شخص صادر بحقه حكم بالسجن المؤبد في منصب قيادي دون أن ترصد الجهات المعنية ذلك؟ أين دور الأجهزة الرقابية التي يُفترض أنها تُجري التحريات الأمنية والإدارية قبل أي تعيين؟ تشير الحادثة إلى خلل بنيوي في التنسيق بين مؤسسات الدولة، وربما إلى وجود حماية أو نفوذ فوق القانون سمح بمرور المتهم عبر المناصب المتتالية دون مساءلة. ويرى محللون أن ما حدث ليس استثناءً، بل نموذج متكرر في منظومة فقدت الشفافية والرقابة، حيث تحكمها دوائر المصالح وشبكات الولاء داخل الإدارة المحلية.
غضب شعبي وإجراءات تجميلية
لم يكد الخبر ينتشر حتى انفجرت موجة غضب واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر خلالها المواطنون عن فقدانهم الثقة في مؤسسات الدولة، متسائلين: كيف يُترك فاسد في موقعه بينما يُطارد الشباب على منشوراتهم؟ أمام هذا السخط الشعبي، سارعت محافظة الإسكندرية لإقالة المتهم وتكليف المهندسة إنجي فتحي بمهامه، في خطوة اعتبرها مراقبون محاولة لاحتواء الفضيحة أكثر من كونها معالجة حقيقية للخلل. أما الحكومة المركزية، فاكتفت ببيانات مقتضبة دون أي إعلان عن مراجعة شاملة لآليات التعيين أو محاسبة المسؤولين عن الخطأ الفادح الذي سمح بترقيته.
فساد يعلو ولا يُحاسب
تكشف هذه الحادثة عن مأزق أخلاقي وإداري عميق تعانيه الدولة المصرية، حيث يتم تجاهل تقارير الرقابة أو تجاوزها لصالح الولاء السياسي والبيروقراطي. فبدلاً من أن تكون المناصب التنفيذية وسيلة لخدمة المواطنين، تحولت في كثير من الأحيان إلى مكافآت توزع داخل شبكات مغلقة، لا مكان فيها للكفاءة أو النزاهة. وهكذا، يُكافأ الفاسد بالترقية، بينما يظل المواطن العادي يدفع ثمن هذا الفساد من أمنه وثقته ومقدرات بلاده.
نظام يحتاج إلى تطهير شامل
إن القبض على "لواء الرشوة" لا يمثل انتصاراً للعدالة بقدر ما يفضح فشل الحكومة في منع الفساد من التسلل إلى أعلى المناصب. فالقضية ليست مجرد حادثة فردية، بل عرض لمرض مزمن في جسد الإدارة المصرية، التي لم تعد قادرة على حماية نفسها من الانحرافات. وإذا لم تُفتح هذه الفضيحة على مراجعة حقيقية لمنظومة التعيينات، فإن مشهد اليوم قد يتكرر غداً بأسماء ومناصب أخرى. وبينما تُعلن الحكومة أنها تحارب الفساد، تؤكد الوقائع أن النظام الإداري ما زال بيئة خصبة له، وأن الدولة التي تعجز عن غربلة مسؤوليها لن تستطيع يوماً أن تبني ثقة شعبها.