يعيش خبراء وزارة العدل المصرية واحدة من أكثر أزماتهم تعقيدًا منذ سنوات، بعد أن تحوّل تدهور أوضاعهم المالية والإدارية إلى قضية رأي عام داخل أروقة الوزارة وخارجها. فبعد احتجاجات متفرقة استمرت على مدى الشهور الماضية، لجأ الخبراء خلال سبتمبر الماضي إلى تنفيذ إضراب تباطؤي، احتجاجًا على ما وصفوه بـ“التعسف الإداري” و“تجاهل مطالبهم المتراكمة”، وعلى رأسها تحسين الرواتب وتمرير قانون جديد عالق منذ أربع سنوات.
إضراب وتجاهل رسمي
كشف أربعة من خبراء وزارة العدل أن الإضراب جاء على شكل تباطؤ جماعي في إنجاز القضايا، حيث قلّص الخبراء معدلات العمل إلى النصف في مختلف المحافظات. وأوضحوا أنهم أرسلوا مذكرات رسمية إلى وزير العدل ومساعده لشؤون الخبراء، مطالبين بلقاء عاجل لحل الأزمة، لكنهم لم يتلقوا أي رد رسمي، وهو ما اعتبروه "استخفافًا بمطالب عادلة تمسّ أساس العدالة نفسها".
وأكد أحد المشاركين أن الخطوة جاءت بعد استنفاد جميع الوسائل القانونية والنقابية، مشيرًا إلى أن تجاهل الوزارة “أشعل غضب المكاتب الميدانية” ودفع العاملين إلى التفكير في التصعيد وصولًا إلى وقف العمل الكامل إذا استمر الصمت الرسمي.
وجاء هذا الاضراب التباطئ بعد عدة مطالبات منهم وقفة نظموها في 2014 أمام وزارة العدل لكن الى الان وهم يستغيثون عاما بعد عام
رواتب متدنية وأعباء مضاعفة
يصف الخبراء أوضاعهم المالية بأنها “مهينة” مقارنة بحجم المهام المكلفين بها. يقول أحدهم، طالبًا عدم ذكر اسمه، إن عدد الخبراء تقلص من نحو 3 آلاف إلى ألف خبير فقط خلال السنوات الأخيرة، نتيجة التقاعد والاستقالات، في ظل توقف التعيينات الجديدة منذ عام 2015.
وأوضح أن متوسط الراتب الشامل يتراوح بين 8 و11 ألف جنيه فقط، بينما يُلزم الخبير بإنجاز خمس قضايا شهريًا كمعدل أساسي، وخمس قضايا إضافية للحصول على الحافز الشهري، “وإلا يُحرم منه بالكامل”.
ويضيف أن مساعد وزير العدل لجأ إلى "تحايل إداري" على قرار الوزير بمنح الحافز، إذ ربط صرفه بتحقيق المعدلات المسائية الكاملة وعدم الحصول على أي إجازات أو التعرض للتحقيق، ما جعل الحافز الذي لم يتغير منذ عام 2012 يفقد قيمته الحقيقية مع موجات التضخم المتتالية.
إجراءات عقابية وتصعيد صحي خطير
لم يتوقف الأمر عند تجاهل المطالب، بل تصاعد إلى إجراءات عقابية وتهديدات مباشرة.
فبحسب مصادر من داخل القطاع، أصدر مساعد الوزير قرارًا بإلغاء نظام التناوب للخبراء الذين لم يحققوا المعدلات المطلوبة خلال سبتمبر، وهو ما اعتُبر “عقابًا جماعيًا” على الإضراب.
وتفاقمت الأزمة عندما أصيبت الخبيرة عبير عبد الله بأزمة قلبية نُقلت على إثرها إلى العناية المركزة، بعد تعرضها لضغوط وتهديد بالتحقيق بسبب رفضها تسجيل زملائها غيابًا لعدم علمهم بالتعليمات الجديدة.
وفي بيان رسمي، حمّل الخبراء قيادات الوزارة المسؤولية عن الحادث، محذرين من توقف العمل تمامًا إذا استمر النهج العقابي.
كما أشار مصدر آخر إلى أن الخبراء يُحالون للتحقيقات بشكل مخالف للوائح عند عدم تحقيق المعدلات، رغم أن المحاكم أبطلت هذه الإجراءات في دعاوى سابقة.
وتشكو الخبيرات أيضًا من تعقيد إجراءات إجازة رعاية الطفل، رغم أن القانون ينص على وجوبيتها، إذ تشترط الإدارة إنهاء قضايا قد تستغرق شهورًا قبل منح الإجازة، ما يضيف عبئًا نفسيًا واجتماعيًا جديدًا على العاملات.
قانون حبيس الأدراج منذ أربع سنوات
تُدار شؤون الخبراء حتى اليوم وفق المرسوم الملكي رقم 96 لسنة 1952، وهو تشريع قديم يخلو من أي تنظيم واضح للرواتب والترقيات والحقوق الوظيفية.
ورغم أن النائبة عبلة الهواري تقدمت بمشروع قانون جديد قبل أربع سنوات لتحديث هذا الإطار التشريعي، فإن المشروع لا يزال حبيس الأدراج في مكتب وزير الدولة لشؤون المجالس النيابية، رغم موافقة اللجنة التشريعية بمجلس النواب عليه.
يقضي المشروع المقترح بتخصيص نصف أموال الأمانات القضائية المحصلة من المتقاضين لصالح قطاع الخبراء، وهي أموال تقدر بمئات الملايين من الجنيهات سنويًا، يمكن أن تُستخدم في تحسين الرواتب وتطوير بيئة العمل المتهالكة.
أزمة تمس منظومة العدالة
يرى مراقبون أن أزمة خبراء وزارة العدل تتجاوز حدود المطالب الفئوية، إذ تمسّ جوهر منظومة العدالة ذاتها، نظرًا إلى أن هؤلاء الخبراء يمثلون العمود الفني للنيابة والقضاء في القضايا المالية والهندسية والزراعية وغيرها.
ويحذرون من أن استمرار التهميش الإداري وتجميد الإصلاح التشريعي سيؤدي إلى تباطؤ العدالة وإضعاف ثقة المواطنين في مؤسساتها، ما لم تتخذ الوزارة خطوات عاجلة لإنصاف العاملين وتحقيق العدالة داخل المؤسسة التي يفترض أنها راعية للعدالة في البلاد.