بينما تواصل اللجان الإعلامية التابعة للنظام اللانقلابي تلميع صورة عبد الفتاح السيسي، وتقديم لقطاته المصوّرة على أنها "إنجازات تاريخية"، تكشف مراجعة موضوعية لسياساته خلال العقد الماضي عن واقع مغاير تمامًا، خصوصًا في ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل والملف الفلسطيني.

هذا التقرير لا يقوم على التكهن أو التحليل النظري، بل على رصد وقائع موثقة تُبرز عمق الارتباط الاستراتيجي بين نظام السيسي وتل أبيب، ارتباط يقوم على التنسيق الأمني والاقتصادي، وغالبًا ما يأتي على حساب القضية الفلسطينية والمصلحة الوطنية المصرية.

 

حصار غزة وتجويعها — الدور المصري في إحكام الخناق

على مدى سنوات، اضطلعت القاهرة بدور مركزي في استمرار الحصار المفروض على قطاع غزة. ورغم أن إسرائيل تُعدّ القوة المحتلة والمحاصِرة الأساسية، فإن إغلاق معبر رفح من الجانب المصري لأشهر متواصلة كان له أثر كارثي على حياة أكثر من مليوني إنسان في القطاع.

اتهمت جهات حقوقية وسياسية النظام المصري مرارًا بالتواطؤ في منع دخول المساعدات الإنسانية وعرقلة قوافل الإغاثة، في حين اكتفت الحكومة بالرد عبر بيانات إنشائية تصف تلك الاتهامات بأنها "دعاية مغرضة".

غير أن الوقائع الميدانية تثبت أن مصر لم تكن مجرّد طرف محايد، بل جزء فاعل من منظومة الحصار، إذ منعت السلطات مرارًا عبور نشطاء ومتضامنين دوليين، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وربط حياة سكان غزة بقرارات أمنية تُتخذ بالتنسيق مع تل أبيب.

 

القمع الداخلي: تكميم أفواه المتضامنين مع فلسطين

لم يقتصر دور النظام المصري على السياسات الخارجية، بل امتد إلى الداخل، حيث يواجه أي صوت ينتقد سياسات الحكومة تجاه القضية الفلسطينية أو يعبر عن تضامن حقيقي مع غزة بالقمع الشديد. فبينما يعبر المسؤولون الحكوميون عن تضامنهم الرسمي مع الفلسطينيين، تشن الأجهزة الأمنية حملة قمع ممنهجة ضد النشطاء والمواطنين الذين يحاولون التعبير عن هذا التضامن بشكل مستقل.

منذ أكتوبر 2023 وحتى منتصف عام 2025، وثقت منظمات حقوقية مصرية ودولية، مثل منظمة العفو الدولية، اعتقال ما لا يقل عن 150 ناشطًا مصريًا، بينهم قُصّر، بسبب مشاركتهم في تظاهرات سلمية أو تعبيرهم عن آرائهم الداعمة لغزة على الإنترنت. لا يزال ما لا يقل عن 95 منهم رهن الحبس الاحتياطي، يواجهون تهمًا فضفاضة مثل "الانضمام إلى جماعة إرهابية" و"نشر أخبار كاذبة"، وهي التهم ذاتها التي تستخدم لقمع المعارضة السياسية السلمية في مصر.

تجلت سياسة القمع هذه بوضوح في التعامل مع "المسيرة العالمية إلى غزة" في يونيو 2025. فقد اعتقلت السلطات عشرات النشطاء المصريين والدوليين الذين حاولوا تنظيم مسيرة سلمية إلى معبر رفح للمطالبة بكسر الحصار. تعرض بعض المعتقلين المصريين للاختفاء القسري والتعذيب، بما في ذلك الصعق بالكهرباء والضرب، لإجبارهم على الإدلاء باعترافات زائفة. كما تم ترحيل مئات النشطاء الدوليين ومنعهم من دخول البلاد.

 

التعاون العسكري — تنسيق أمني غير مسبوق

شهد عهد السيسي تصاعدًا لافتًا في التعاون الأمني والعسكري مع إسرائيل، خصوصًا في شبه جزيرة سيناء بذريعة محاربة تنظيم "داعش".

هذا التعاون شمل، بحسب تقارير متعددة، موافقات إسرائيلية استثنائية على إدخال قوات ومعدات عسكرية مصرية إلى مناطق منزوعة السلاح، في خرقٍ واضح لبنود اتفاقية "كامب ديفيد".

ورغم محاولات النظام تصوير هذا التنسيق على أنه ضرورة أمنية، فإنّ حقيقته تكمن في بناء مستوى عالٍ من الثقة المتبادلة بين القيادتين العسكرية والسياسية في القاهرة وتل أبيب.

لكن هذا التفاهم لا يخلو من التناقضات؛ إذ تواصل مؤسسات عسكرية مصرية النظر بعين الشك إلى إسرائيل، بينما اتهمت الأخيرة مصر باستخدام طائرات صينية للتجسس على أنشطتها، ما يعكس ازدواجية النظام الذي يحافظ على ولاء عملي لإسرائيل، مع خطاب وطني ظاهري موجّه للاستهلاك الداخلي.

 

الموانئ المصرية وتجارة الدم

لم يتوقف التعاون عند حدود الأمن، بل امتد ليشمل دعمًا لوجستيًا واقتصاديًا مباشرًا.

أحد الأمثلة الصارخة تمثّل في رسو السفينة الألمانية MV Kathrin في ميناء الإسكندرية، وهي محمّلة بشحنة مواد متفجرة تزن 150 ألف كيلوجرام كانت متجهة إلى شركة "إلبيت سيستمز"، أكبر شركة سلاح إسرائيلية.

ورغم النفي المصري الغامض، أكدت بيانات تتبع السفن وتقارير حقوقية صحة الواقعة، ما يثير تساؤلات حول استخدام الموانئ المصرية كقواعد لوجستية تسهّل دعم آلة الحرب الإسرائيلية.

اقتصاديًا، استمر تدفق الصادرات المصرية إلى إسرائيل في ذروة العدوان على غزة. ففي يونيو 2025 وحده، بلغت قيمة الصادرات الغذائية 3.8 ملايين دولار، شملت فواكه وحبوبًا ومنتجات زراعية، بينما تجاوزت صادرات المواد الغذائية والمشروبات منذ أكتوبر 2023 حتى فبراير 2025 نحو 121.4 مليون دولار، إلى جانب 265.6 مليون دولار في مواد البناء.

بهذا، تحولت التجارة المصرية إلى شريان يغذي الاقتصاد الإسرائيلي في الوقت الذي يُحاصر فيه الفلسطينيون في غزة جوعًا ودمارًا.

 

الأجواء وقناة السويس — تسهيلات استراتيجية لإسرائيل

لم تقتصر التسهيلات على البر، بل امتدت إلى الجو والبحر.

فعبور السفن الحربية الإسرائيلية قناة السويس أصبح مشهدًا متكررًا، تبرره هيئة القناة بالالتزام باتفاقية القسطنطينية لعام 1888 التي تنص على حرية الملاحة للجميع، دون تمييز. غير أن هذا "الالتزام القانوني" يتحول في زمن العدوان إلى خدمة استراتيجية تسهّل حركة الأسطول الإسرائيلي.

أما المجال الجوي المصري، فقد شهد بدوره نشاطًا عسكريًا متزايدًا، مع حوادث سقوط أجسام مجهولة في سيناء تبين لاحقًا أنها ناتجة عن عمليات عسكرية إسرائيلية في البحر الأحمر، ما يعكس تغوّل إسرائيل داخل الفضاء الإقليمي المصري وتحوّله إلى منطقة مراقبة مشتركة.

 

صفقات الغاز — من مصدر للطاقة إلى وسيط لإسرائيل

تُعد صفقات الغاز أبرز مظاهر الارتهان الاقتصادي للنظام المصري لإسرائيل.

فبعد أن كانت مصر مصدرًا للطاقة في المنطقة، تحولت في عهد السيسي إلى مستورد رئيسي للغاز الإسرائيلي من حقلي لوثيان وتمار، في صفقات تبلغ قيمتها 35 مليار دولار تمتد حتى عام 2040.

وبموجب اتفاقية ثلاثية أُبرمت عام 2022 بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، أصبح الغاز الإسرائيلي يُنقل إلى محطات الإسالة المصرية قبل تصديره إلى أوروبا، ما يجعل القاهرة مجرد وسيط لتسويق الغاز الإسرائيلي عالمياً، ويقوّض سيادتها الاقتصادية ودورها الإقليمي المستقل.

 

بين الخطاب والممارسة

بينما يقدّم السيسي نفسه كـ"حامٍ للقضية الفلسطينية"، تكشف الوقائع أنه يرسخ علاقة تبعية استراتيجية مع إسرائيل في كل المستويات: الأمنية، والاقتصادية، والسياسية.

فالخطاب الرسمي لا يتجاوز حدود الشعارات، في حين تشير السياسات الفعلية إلى نظام جعل من بلاده شريكًا موضوعيًا لإسرائيل، مقدّمًا تنازلات لم تجرؤ عليها أي سلطة مصرية سابقة.

وهكذا، يتحول الحديث عن "دعم غزة" إلى ستارٍ يُخفي واقعًا من التعاون الوثيق مع المحتل، حيث تُختزل سيادة الدولة المصرية في دور الوسيط المطيع، بينما تستمر غزة في دفع الثمن من دمها وجوعها وعزلتها.