جاءت انتخابات التجديد النصفي لنقابة الأطباء لعام 2025 لتكشف عن واقع متجذر من الهيمنة السياسية والتوجيه الأمني داخل أكبر الكيانات النقابية في مصر، بعد فوز كاسح لقائمة «المستقبل» المدعومة من الأجهزة الأمنية، وسط اتهامات بغياب التعددية، وإقصاء أي تيار مهني أو معارض لا يخضع لخط السلطة.
فبينما رُوّج للانتخابات بوصفها “عرسًا ديمقراطيًا” يعبر عن إرادة الأطباء، رآها كثير من المراقبين استفتاءً صامتًا على نفوذ الدولة داخل النقابات المهنية، حيث حُسمت النتائج مسبقًا بفعل توجيهات غير معلنة وهيمنة تامة على العملية التنظيمية والإعلامية، ما جعلها أقرب إلى “تجديد ولاء” منه إلى منافسة حقيقية.
نتائج محسومة وتوازن مختل
أسفرت النتائج عن فوز شبه كامل لقائمة «المستقبل» في جميع مقاعد النقابة العامة، سواء فوق السن أو تحت السن. فقد حصل الدكتور أحمد الشربيني على 6943 صوتًا، تلاه جمال عميرة بـ6213، وياسر حلمي بـ4770 صوتًا. أما فئة تحت السن، ففاز بها أحمد زهران بـ7036 صوتًا، وأحمد بحلس بـ5245، وخالد أمين زارع بـ6077 صوتًا.
وعلى المستوى الإقليمي، فازت شخصيات عدة بالتزكية مثل إيمان سليمان في القاهرة ومحمد حمزاوي في غرب الدلتا، ما يعكس ضعف المنافسة وانعدام التنوع المهني والسياسي.
هذه النتائج لا تعكس فقط شعبية قائمة واحدة، بل تكشف عن تغلغل النفوذ الأمني في العملية الانتخابية، بدءًا من آلية الترشيح، مرورًا بترتيب الجداول الانتخابية، ووصولًا إلى السيطرة على اللجان وإقصاء المرشحين المستقلين والمعارضين بذريعة “عدم استيفاء الشروط”.
العمل النقابي تحت وصاية السلطة
لم تكن النقابة بمعزل عن مناخ الإغلاق السياسي العام الذي تعيشه البلاد منذ سنوات، إذ تحوّلت أغلب الكيانات المهنية إلى أذرع بيروقراطية خاضعة لتوجيهات الدولة، تفقد استقلالها وتُفرّغ من مضمونها الحقوقي.
وتشير مصادر نقابية إلى أن قائمة “المستقبل” تمثل الامتداد النقابي لتوجهات الأجهزة الأمنية، إذ تضم شخصيات معروفة بقربها من دوائر الدولة وحرصها على “التهدئة” لا المواجهة. وهو ما يعني عمليًا استمرار نمط النقابة كجهاز إداري تابع لا صوت له في القضايا المهنية الجوهرية مثل الأجور، وسوء بيئة العمل، وقانون المسؤولية الطبية.
في المقابل، تعرض المرشحون المستقلون والمناهضون للسلطة لحملات تضييق وإقصاء ممنهج، شملت منعهم من التواصل مع الناخبين داخل المستشفيات العامة، إلى جانب تهميش حضورهم الإعلامي، ما جعل المنافسة غير متكافئة منذ البداية.
جمود نقابي وتصفية الأصوات الحرة
يرى مراقبون أن هذه النتائج تمثل استمرارًا لحالة الجمود النقابي التي خيّمت على النقابة خلال العقد الأخير، حيث تراجع صوت الأطباء المدافعين عن استقلال المهنة، وجرى تحويل النقابة إلى ساحة شكلية تُدار بقرارات فوقية من السلطة التنفيذية.
ويحذر عدد من الأطباء من أن سيطرة قائمة واحدة مرتبطة بالأمن ستؤدي إلى دفن آخر مظاهر الديمقراطية النقابية، وإلى تفريغ النقابة من أي مضمون مهني حر، بما يجعلها عاجزة عن تمثيل مصالح الأطباء أمام الحكومة.
ويؤكد أحد الأعضاء السابقين في النقابة – فضل عدم ذكر اسمه – أن الانتخابات الأخيرة “لم تكن سوى واجهة لإعادة تدوير مجلس مطيع للسلطة”، مضيفًا أن “إقصاء المعارضين ومنع الأصوات النقدية من الترشح يشير إلى توجه لتكميم النقابات كما كُممت الحياة السياسية”.
انهيار مفهوم التمثيل الحر
تأتي هذه الانتخابات في وقت تتصاعد فيه أزمات الأطباء، من تدني الأجور والهجرة الجماعية إلى الخارج، إلى ضعف التأمين الصحي وسوء بيئة العمل داخل المستشفيات العامة. إلا أن المجلس الجديد، وفق مراقبين، لن يمثل ضغطًا حقيقيًا على الحكومة، بل سيواصل نهج التنسيق الصامت معها تحت شعار “العمل المشترك”، دون أي مواجهة أو دفاع حقيقي عن مصالح الأطباء.
ويرى محللون أن فوز قائمة موالية للنظام يعني عمليًا تجريد النقابة من استقلاليتها التاريخية التي كانت يومًا ما أحد آخر معاقل المعارضة المدنية، وتحويلها إلى أداة لتجميل صورة السلطة أمام المجتمع الدولي.
نقابة بلا روح ديمقراطية
تؤكد انتخابات الأطباء لعام 2025 أن الديمقراطية النقابية في مصر تتآكل تحت وطأة القبضة الأمنية التي تخنق كل مساحة للتعبير الحر. فبدلًا من أن تكون النقابة بيتًا لكل الأطباء، أصبحت امتدادًا لمؤسسات الدولة وأجهزتها، تُدار بالتوجيه لا بالتصويت.
وبينما كان الأطباء يأملون في مجلس يعيد للنقابة دورها في الدفاع عن المهنة والكرامة، جاءت النتيجة لتكرس واقعًا جديدًا: نقابة تابعة للسلطة، لا حامية للمهنة، ومشهد انتخابي يعيد إنتاج الصوت الواحد ويقضي على ما تبقى من روح الديمقراطية المهنية في مصر.