تجددت الأزمة حول إقامة حفلات صاخبة في محيط أهرامات الجيزة بعد تقديم دعوى قضائية تطالب بوقف هذه الفعاليات خوفًا من تأثير "الترددات الصوتية العالية" وأضواء الليزر على سلامة البناء الحجري الأثري وسمعة الموقع العالمي.

الدعوى أعادت السؤال الأكبر: من يخدم مصلحة الآثار وسياسة الترويج السياحي أم حماية الإرث الإنساني؟
 

خلفية الدعوى
قدم المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية دعوى إدارية بتاريخ 8 أكتوبر 2025 يطالب فيها بوقف تنظيم "احتفالات ليلية صاخبة" داخل النطاق الأثري للأهرامات، ومنع استخدام مكبرات صوت تنتج ترددات وذبذبات قد تؤدي إلى "خلخلة" البناء الحجري، وكذلك منع استعمال أضواء ليزر غير متوافقة مع المعايير الدولية للإضاءة في المواقع الأثرية.

المنشور الصحفي للمركز يذكر بوضوح أن الدعوى تستند إلى دراسات ومخاوف علمية من تأثير الاهتزازات والضوضاء والأضواء على المواد الحجرية القديمة.

يطالب مقدمو الدعوى بتطبيق مبادئ ومعايير حفاظ دولية مثل إيكوموس ومرجعيات اليونسكو/ICCROM  التي تشدد على أن مواقع التراث تتطلب إدارة محكومة بالمعايير الفنية لدرء المخاطر الناتجة عن الضوضاء والاهتزازات والإنشاءات المؤقتة.

المؤسسات الحقوقية استشهدت بأن كل زيادة في ديسيبلات الصوت أو ترددات منخفضة مستمرة قد تُحدث إجهادًا ميكانيكيًا مترسبًا على مفاصل الحجارة بمرور الزمن، خاصة في مواقع يصل عمرها إلى أكثر من 4,500 سنة.

المطالب تشمل أيضًا حظر أي حفر أو إنشاءات مؤقتة داخل الحرم.
 

أمثلة سابقة وتحركات قضائية
الأحداث ليست جديدة؛ خلال 2023 شهدت البلاد جدلاً كبيرًا حول حفل الفنان الأمريكي ترافيس سكوت، الذي أثار احتجاجات ورفضًا من نقابات ومواقع ثقافية وتم إلغاؤه لاحقًا بعد ضغوط قانونية وإدارية، ثم عادت قضايا متعلّقة بتراخيص الحفلات إلى الواجهة خلال 2025 (ومنها أحكام إدارية صدرت في 16 سبتمبر 2025 بشأن ترخيص حفل مُخطط).

هذا المسار يكشف تناقضًا بين أجندة "الترويج السياحي" من جهة، واحتجاجات أهل الاختصاص والحقوقيين من جهة أخرى.
 

من يخاطر بالآثار؟ سياسة التسويق السياحي مقابل حماية التراث
حكومة الانقلاب المصرية، ممثلةً بوزارات السياحة والآثار، روجت في السنوات الأخيرة لخطط تطوير ضخمة واستثمارات بملايين الدولارات لتحديث مداخل وتسهيلات زيارة الهضبة، مؤشرات تقول إن قطاع السياحة عاد بقوة بعد جائحة كورونا، والحكومة تحدثت عن أرقام سياح قياسية في أعوام قريبة وصلت إلى أرقام لا سابق لها (تُذكر أرقام زوّار على مستوى الملايين في 2024)، ما يضع ضغوطًا سياسية واقتصادية على من يديرون المواقع الأثرية.

مع ذلك، تحويل الهضبة إلى "منصة حفلات عالمية" يخضع لمنطق ربح فوري على حساب المحافظة طويلة الأجل، وهو ما ينتقده دعاة الحفاظ وحقوق المواطن.
 

تصريحات مسؤولين ومَنابر رسمية
قال وزير السياحة ومسؤولون في المجلس الأعلى للآثار في مناسبات سابقة إنهم "ملتزمون بالمحافظة" وتحديث الخدمات السياحية، وظهرت تصريحات تشير إلى مشاريع إضاءة داخلية حديثة تهدف إلى الحفاظ وإبراز الآثار، لكن تلك التصريحات لا تشرح كيف ستُمنع الفعاليات التجارية الكبيرة من استخدام أنظمة صوتية وضوئية خارج إطار الضوابط الفنية، هذا الفراغ يؤدي إلى تعارض بين وعود الحماية وآليات التنفيذ على الأرض.

الدعوى ترفع سؤالين مركزيين: أولًا، من سمح أو يمنح التراخيص لتنظيم حفلات ليلية داخل النطاق الأثري؟ وثانيًا، من يتحمّل المسؤولية إذا ثبت تضرّر حجر أو ممر أو تابوت نتيجة اهتزازات أو إنارة غير متوافقة؟ النقاش القانوني يتداخل هنا مع منطق الحكم، فهل ستُعطى الأولوية لخفض العجز في إيرادات السياحة أم للأمان العلمي للحفاظ على موقع مسجّل في قائمة التراث العالمي؟
 

لماذا هذا موضوع سياسي بالدرجة الأولى؟
اختيارات إدارة الموقع وقرارات الترخيص ليست فنية فقط؛ هي سياسات تتخذها مؤسسات الدولة، في بلد تسيطر فيه شبكة قرارات اقتصادية وسياسية مركزية، تصبح أقرب إلى اختبار لمدى احترام مؤسسات النظام لخبراء التراث والمجتمع المدني.

رفض حماية الأثر لصالح فعاليات ليلية يكرّس منطق الربح اللحظي الذي ينتقده كثيرون بوصفه تأبيدًا لسياسات تفضّل صورًا تسويقية على مصلحة الأجيال القادمة.
 

توصيات الدعوى
الدعوى التي رفعتها مؤسسات حقوقية في 8–9 أكتوبر 2025 تطالب بتطبيق المعايير الدولية فورًا، فرض قيود صوتية وضوئية، وإيقاف أي إنشاءات مؤقتة، وإجراء دراسات تأثير بيئي واهتزازي مستقلّة قبل أي قرار.

إذا قبل القضاء هذه الدعوى فسيكون انتصارًا لصوت الخبرة والحفاظ على الإرث، وإن رفضها، فستكون صفحات التاريخ رصدًا لمَن راهن على أرباح لحظية مقابل تآكل إرث لا يُعوَّض.