في قلب صحراء سيناء، حيث يقف جبل موسى شامخًا وموقع سانت كاترين شاهدًا على تعاقب الحضارات والديانات، تمضي حكومة الانقلاب في تنفيذ مشروع “التجلي الأعظم”، الذي تروج له بوصفه “أكبر مشروع روحاني في العالم”. لكن خلف العناوين البراقة والعبارات المنمقة عن “السياحة الدينية والتنمية المستدامة”، تتكشف صورة أخرى مغايرة تمامًا: مشروع مفروض من أعلى، ينفذ بمنطق الهيمنة الأمنية والربح السريع، مهددًا بتدمير واحدة من أقدس بقاع الأرض وبتهميش سكانها الأصليين.
جرافات التطوير تقتحم محمية التراث العالمي
رغم أن محمية سانت كاترين مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 2002، لم تتردد السلطات في إدخال الجرافات وشق الطرق داخل نطاقها، بزعم “تسهيل الوصول للحجاج والسياح”. المشروع الذي تبلغ تكلفته التقديرية نحو 4 مليارات جنيه يشمل إنشاء فنادق جبلية وشاليهات ومجمعات فندقية ضخمة، إضافة إلى طريق جديد بطول 70 كيلومترًا يربط الطور بسانت كاترين، يخترق عمق المحمية ويقسمها إلى أجزاء معزولة.
الخبراء يحذرون من أن هذا التدخل الجائر يهدد النظام البيئي الفريد للمنطقة، ويعرض عشرات الأنواع النادرة للخطر، بينها فراشة سيناء الزرقاء المهددة بالانقراض. كما أن ضخامة الأعمال العمرانية ستؤدي إلى تلوث بصري وبيئي غير مسبوق، فضلًا عن الضغط الهائل على الموارد المائية المحدودة، وهو ما يجعل حديث الحكومة عن “التنمية المستدامة” أقرب إلى الشعارات الإعلامية منه إلى السياسات الفعلية.
تهميش “الجبالية”.. حراس الجبل خارج المشهد
لكن الكارثة البيئية ليست وحدها ما يثير القلق. فالمشروع، الذي يفترض أنه “روحي وإنساني”، تجاهل تمامًا المجتمع المحلي من بدو الجبالية، الذين عاشوا في هذه الجبال منذ مئات السنين وحافظوا على طبيعتها وتاريخها. هؤلاء الذين يُعرفون بـ“حراس الجبل” وجدوا أنفسهم اليوم خارج أي معادلة، بعدما أزاحتهم السلطات عن أراضيهم ومصادر رزقهم.
تحدث عدد من أبناء القبيلة لوسائل إعلام محلية مستقلة عن هدم مقابر أجدادهم أثناء أعمال التوسعة، معتبرين ذلك “إهانة للمقدسات” وتعديًا على تراثهم الذي لا يقدر بثمن. الحكومة من جانبها تتحدث عن “توفير فرص عمل” لهم، لكن هذه الفرص – إن وجدت – غالبًا ما تكون هامشية ومؤقتة، بينما يتم استقدام شركات مقاولات من خارج سيناء لتنفيذ المشروعات الكبرى.
مشروع بلا شفافية ولا نقاش مجتمعي
ما يزيد من الشكوك حول “التجلي الأعظم” هو الغياب التام للشفافية. فحتى الآن، لم تُنشر أي دراسات مستقلة للأثر البيئي أو الاجتماعي، ولم تُجرَ مشاورات علنية مع أهالي المنطقة أو منظمات المجتمع المدني. الصحفيون والناشطون الذين حاولوا التحقق من التفاصيل قوبلوا بتضييق أمني، فيما تغيب أي رقابة برلمانية أو مؤسسية على المشروع الذي يتوسع بوتيرة متسارعة.
يصف باحثون بيئيون المشروع بأنه “خصخصة روحية للطبيعة”، إذ يتم تحويل مساحة مقدسة إلى منتجع سياحي فاخر يخدم النخب والوافدين، بينما يُحرم السكان الأصليون من المشاركة في صياغة مستقبل منطقتهم. ويؤكد آخرون أن مثل هذه السياسات لا تختلف عن نمط التنمية الذي اتبعته الحكومة في العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة: تنمية تقوم على الإخلاء والإحلال لا على الشراكة والمشاركة.
شعارات روحانية بوجه اقتصادي صارم
من الناحية الرسمية، تروج الحكومة للمشروع كـ“وجهة عالمية للسياحة الدينية”، تجمع بين الديانات السماوية الثلاث، لكن كثيرين يرون أن هذه الرواية تغطي على هدف اقتصادي وسياسي بحت: استغلال الموقع الفريد لجلب العملة الصعبة وخلق واجهة جديدة تضاف إلى قائمة المشاريع الدعائية التي يفتخر بها النظام في مؤتمراته الدولية.
إلا أن هذا “التطوير” لا يضع في اعتباره التوازن الدقيق بين الإنسان والمكان الذي جعل من سانت كاترين رمزًا للسكينة والروحانية. فحين تتحول المنطقة إلى مجمع فندقي وضوضاء عمرانية، تفقد روحها التي جذبت الزوار والسياح في المقام الأول. والنتيجة المحتملة هي طمس الهوية البيئية والدينية لسيناء تحت كتل الخرسانة والطرقات السريعة.
الخلاصة: “التجلي الأعظم”.. عنوان لسطو جديد باسم التنمية
في جوهره، لا يعكس مشروع “التجلي الأعظم” سوى فلسفة الحكم القائمة على الفوقية والتجاهل الشعبي. فبدلًا من الإصغاء لأصوات أبناء سيناء أو خبراء البيئة، تمضي الحكومة في فرض مشروعها باعتباره “قرارًا سياديًا” لا يقبل النقاش. النتيجة ليست فقط تدمير محمية طبيعية فريدة، بل تدمير نسيج إنساني وثقافي تشكل عبر قرون من التفاعل بين الجبل والإنسان.
إنه مشروع يرفع لافتة “التطوير الروحاني”، لكنه في حقيقته يعكس تجليًا أعظم للبيروقراطية والهيمنة الاقتصادية، حيث تتحول الأرض المقدسة إلى سلعة، والهوية إلى ديكور، والإنجاز إلى صورة تُلتقط من الجو بينما الواقع على الأرض يئن تحت الجرافات.