في خطاب جديد حمل عناوين براقة عن “إعادة صياغة مؤسسات الدولة”، بدا عبد الفتاح السيسي أكثر قلقًا من أي وقت مضى وهو يتحدث عن مشروع وطني واسع لإعادة هيكلة أجهزة الدولة “بهدوء وانضباط”. لكن خلف هذه اللغة الهادئة، قرأ مراقبون رسالة مختلفة تمامًا: رئيس يخشى انفجار الغضب الشعبي ويبحث عن وسيلة لاحتواءه دون تغيير حقيقي.
 

خطاب بوجه إصلاحي ومضمون أمني
السيسي قال في كلمته أمام طلاب أكاديمية الشرطة إن مشروعه الجديد لا يستهدف حكومة أو قيادة بعينها، بل يهدف إلى “تصويب العوار داخل البشر والمؤسسات”.
غير أن اختيار المكان والزمان لم يكن بريئًا، إذ أطلق هذه التصريحات من داخل واحدة من أكثر المؤسسات الأمنية ولاءً للنظام، في إشارة ضمنية إلى أن الأمن يظلّ أداة الضبط الأولى في يده، حتى عندما يتحدث عن الإصلاح.

وأكد السيسي أن عملية الإصلاح “لن تحدث بين ليلة وضحاها”، وأنه لن يتم ضخ دماء جديدة في مؤسسات الدولة إلا بعد “رعاية وتحضير دقيق”.
وهي جملة قرأها محللون على أنها تأكيد لاستمرار الإغلاق السياسي ومنع صعود أي كوادر مستقلة أو معارضة، بذريعة “التحضير” و“الاختيار الدقيق”، بما يضمن بقاء المؤسسات تحت سيطرته المباشرة.
 

هاجس الثورة والشارع المترقب
ورغم المظهر الهادئ للخطاب، إلا أن مضمونه يعكس بوضوح خوف السيسي من موجة احتجاجات قادمة.
فخلال الأسابيع الأخيرة، تصاعدت الدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لحركة “زد”، وهي حركة احتجاجية شبابية تحذر من تدهور الأوضاع الاقتصادية واحتكار السلطة.
ومع تصاعد الغضب الشعبي من الغلاء، والبطالة، وغياب الأفق السياسي، جاء خطاب السيسي كرسالة “طمأنة قسرية” للداخل، بأنه يسيطر على زمام الأمور، وبأن أي تغيير سيكون منضبطًا وتحت إشرافه.

ويرى محللون أن السيسي لا يسعى إلى إصلاح فعلي بقدر ما يسعى إلى نزع فتيل الانفجار الشعبي عبر وعود شكلية بإعادة هيكلة الدولة، مع الإبقاء على جوهر النظام كما هو.
فكل حديثه عن “تصويب البشر والمؤسسات” لا يخرج عن إطار خطاب الوصاية على الشعب، وكأن المشكلة في الناس وليست في السياسات التي أنتجت الفساد والركود والقمع.
 

خوف متجذر من مصير الأسد والربيع العربي
تشير مصادر وتحليلات إلى أن السيسي يعيش هاجسًا دائمًا من تكرار سيناريوهات الربيع العربي أو السقوط في مصير مشابه لبشار الأسد أو غيره من القادة الذين واجهوا انتفاضات شعبية.
لذلك يسعى، وفق مراقبين، إلى تقديم ما يشبه “إصلاحات وقائية” تُظهره بمظهر القائد المتدرج والعقلاني، لكنها في الحقيقة مجرد تحركات تجميلية لواجهة نظام أمني مغلق.

كما أن حديثه عن "مشروع وطني واسع" يتناقض مع الواقع الذي تشهده مصر من تدهور اقتصادي غير مسبوق واحتقان اجتماعي حاد.
فبينما تتحدث السلطة عن "بناء الدولة الحديثة"، يعاني المواطن من ارتفاع الأسعار، وتراجع الخدمات، وتضييق الحريات، ما يجعل أي دعوة إلى "إصلاح مؤسسات الدولة" فاقدة للمصداقية في نظر الشارع.
 

أكاديمية الشرطة.. منصة للرسائل الموجهة
اختيار السيسي لأكاديمية الشرطة لإلقاء كلمته لم يكن مصادفة، بل هو تأكيد على أن الأمن هو عمود مشروعه الحقيقي. فبينما يتحدث عن الكفاءة والانضباط، يشير الحضور الأمني المكثف إلى أن الهدف الأساسي هو ترهيب الشارع وإعادة تذكيره بسطوة الدولة.

ويرى مراقبون أن هذا الظهور يهدف إلى شد أزر المؤسسة الأمنية ومنحها تفويضًا مستمرًا لمواجهة أي تحرك جماهيري محتمل، خاصة مع تصاعد الحديث عن احتجاجات “زد” وما تمثله من حالة تمرد جيلية جديدة.
 

إصلاح بلا حرية ولا مساءلة
ما يصفه السيسي بـ"إعادة الصياغة" ليس سوى إعادة تدوير للنظام نفسه، بنفس البنية البيروقراطية والمركزية التي تخنق الكفاءات وتغلق الباب أمام الإصلاح الحقيقي.
فالمجتمع، بحسب معارضين، لا يحتاج إلى “إصلاح البشر”، بل إلى نظام يحترم المواطن ويفتح المجال للمساءلة والشفافية والمشاركة السياسية.

وبينما يواصل السيسي ترديد خطاب “التطوير الهادئ”، يتصاعد في المقابل الغضب الشعبي الصامت، وسط تراجع غير مسبوق في مستوى المعيشة واتساع فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع.

الخلاصة أن خطاب السيسي الأخير يكشف أكثر مما يخفي. فمشروعه المعلن لإعادة بناء مؤسسات الدولة يبدو في جوهره محاولة لتهدئة الغضب واحتواء الشارع تحت عباءة الأمن.
هو مشروع خوف أكثر منه مشروع إصلاح، يرمي إلى تثبيت السيطرة عبر لغة الإصلاح، وإلى إعادة إنتاج السلطة ذاتها بوجه جديد.

وفي ظل تصاعد أزمات الداخل وضغوط الخارج، يبدو أن السيسي يحكم اليوم بمنطق من يخشى شعبه أكثر مما يخدمه، مستعيضًا عن الثقة بالقمع، وعن المشاركة بالتوجيه، وعن الإصلاح الحقيقي بإدارة الخوف.
هكذا، تتحول "إعادة الصياغة" من وعد بالإصلاح إلى بيان رسمي عن خوف النظام من الشعب الذي بدأ يدرك أن صمته لم يعد ضمانًا للاستقرار.