قدّم رئيس وزراء الانقلاب مصطفى مدبولي تصريحًا مثيرًا للجدل قال فيه إن “التجربة المصرية في السلام مع إسرائيل” أسست لـ“سلام عادل رسّخ الاستقرار”. غير أن هذا الخطاب الرسمي يبدو منفصلًا تمامًا عن الواقع الميداني والسياسي الراهن، حيث تواصل إسرائيل فرض سيطرتها العسكرية على ممر فيلادلفيا ومعبر رفح منذ عام 2024، وتدفع باتجاه وقائع قسرية على حدود سيناء، في تناقض صارخ مع مفاهيم “الاستقرار” و“السلام العادل” التي يروّج لها المسؤولون المصريون.

 

تناقض مع الواقع الميداني

منذ عملية رفح وتوسّع الاحتلال الإسرائيلي للسيطرة على “ممر فيلادلفيا” وعقدة معبر رفح، تحوّل الشريط الحدودي إلى منطقة نفوذ عسكري إسرائيلي مباشر، بما يخالف الترتيبات الأمنية المنصوص عليها في معاهدة كامب ديفيد لعام 1979. هذه السيطرة الميدانية الإسرائيلية، التي وثّقتها تقارير رسمية وأممية، تجعل حديث مدبولي عن “سلام مستقر” أقرب إلى إنكار للواقع، إذ يعيش المصريون والفلسطينيون على وقع تهديدات أمنية متزايدة، بينما تنكمش سيادة القاهرة على حدودها الشرقية بفعل تحركات إسرائيلية أحادية.

بين مارس ومايو 2025، أشارت تقارير صادرة عن بعثة مصر لدى الأمم المتحدة إلى أن إسرائيل فرضت وجودًا عسكريًا فعليًا على طول الحدود، من رفح حتى موراغ، ما يعني أن تل أبيب أعادت تشكيل الوضع الحدودي من جانب واحد، دون تنسيق مع القاهرة، في سابقة تمسّ مباشرة مفهوم “الاستقرار” الذي يتحدث عنه مدبولي.

 

ضغط استراتيجي على مصر

ترى تحليلات بحثية عربية ودولية أن بقاء إسرائيل في ممر فيلادلفيا ليس مجرد تطور عسكري، بل ضغط استراتيجي على الأمن القومي المصري. فالسيطرة على هذا الممر الحساس تضع إسرائيل عمليًا على بوابة سيناء، وتفتح الباب أمام مخططات أوسع لإعادة هندسة الحدود أو تفريغ قطاع غزة باتجاه الأراضي المصرية.

تشير دراسات مراكز فكر إقليمية إلى أن القاهرة تنظر بقلق بالغ إلى محاولات تهجير سكان غزة نحو سيناء باعتبارها تهديدًا وجوديًا، يقوّض فكرة الدولة الفلسطينية ويضع مصر أمام كلفة إنسانية وأمنية هائلة. في ضوء ذلك، يصبح حديث “الاستقرار” الذي يروّجه مدبولي تجميلًا لواقع هشّ، يحجب المخاطر المتصاعدة عن الرأي العام المحلي.

 

“سلام عادل” أم وقائع ضم وتمدد؟

في الوقت الذي يتحدث فيه المسؤولون المصريون عن “سلام عادل”، تواصل النخب السياسية في إسرائيل –وخاصة اليمين الحاكم– الترويج لأطروحات توسعية تتراوح بين “إسرائيل الكبرى” ومشاريع الضم الزاحف في الضفة الغربية وغزة. ويُنظر إلى السيطرة على ممر فيلادلفيا كجزء من استراتيجية “الأمن أولًا” التي تمنح إسرائيل حق الهيمنة العسكرية في محيطها المباشر، على حساب أي توازن عادل أو احترام للسيادة المصرية والفلسطينية.

هذا الواقع يحوّل “السلام” من اتفاق متكافئ إلى إدارة صراع غير متكافئة، تُبقي مصر في موقع المتلقّي، وتتيح لتل أبيب فرض وقائع جديدة كلما تبدلت موازين القوة.

 

استغلال الخطاب لتبييض الواقع

يبدو أن استخدام مدبولي لعبارات مثل “سلام عادل” و“رسوخ الاستقرار” ليس توصيفًا دقيقًا، بل محاولة لتبييض واقع سياسي وأمني مقلق. فحتى البيانات المصرية الرسمية أمام الأمم المتحدة في العامين الأخيرين أدانت السلوك الإسرائيلي في رفح، واتهمت تل أبيب بعرقلة دخول المساعدات الإنسانية وإغلاق المعابر. هذا التناقض بين الخطاب الدولي والخطاب المحلي يكشف أن “السلام” الذي يُسوَّق داخليًا كإنجاز تاريخي، يُدار فعليًا في ظل انتهاكات متواصلة لسيادة مصر وحدودها.

 

كلفة “التلطيف” على الأمن القومي

الاستمرار في “تلطيف الأجواء” مع تل أبيب، بينما تُفرض وقائع عسكرية على حدود مصر، يضعف أدوات الردع السياسي ويشجع إسرائيل على تثبيت وجودها الميداني. هذه السياسة لا تضمن استقرارًا، بل تنذر بهشاشة متفاقمة، إذ تتزايد المؤشرات على تصدّع الثقة المتبادلة بين الجانبين وارتفاع التوترات حول ملفات الطاقة والملحق الأمني لمعاهدة السلام.

إن خطاب “السلام المستقر” الذي يردده رئيس الوزراء لا يعكس واقعًا من العدالة أو الندية، بل يغطي على وقائع احتلال وتمدد تتحدى حدود مصر وتعرّض أمنها الوطني للخطر.

وفي النهاية فتوصيف مصطفى مدبولي للتجربة المصرية في السلام بوصفها “عادلة ومستقرة” يتناقض بوضوح مع الأدلة الميدانية والوثائق الدولية التي تثبت استمرار الاحتلال الإسرائيلي لممر فيلادلفيا ومعبر رفح، وإعادة تشكيل الوضع الحدودي بما يخالف معاهدة 1979.

في ظل هذا الواقع، لا يمكن الحديث عن “سلام عادل” بينما تُدار الحدود المصرية تحت ضغط عسكري إسرائيلي، ولا عن “استقرار” فيما المخاطر تتزايد على الأمن القومي المصري. السلام الحقيقي لا يُقاس بالتصريحات المطمئنة، بل بميزان العدالة والسيادة؛ وما يحدث الآن هو عكس ذلك تمامًا — سلام هشّ يُجمَّل بالكلمات، فيما الأرض تتغير تحت الأقدام..