تحوّل دير سانت كاترين، الواقع في قلب جنوب سيناء وأحد أقدم الأديرة المأهولة في العالم، مساء الثلاثاء الماضي إلى ساحة مواجهة دراماتيكية، بعدما اقتحم رجال أمن خاص قلالي الرهبان، وأخرجوا 11 منهم بالقوة في مشهد صادم وثقته مقاطع فيديو. هذه الواقعة، التي وصفها المطران داميانوس بـ"الانقلاب الرهباني"، اعتبرها الرهبان "حركة إنقاذ" لحماية استقلالية الدير من وصاية أثينا وتواطؤ القاهرة.
هكذا انفجرت أزمة قديمة–جديدة، جمعت في طياتها الصراع بين القانون والسيادة والسياسة والروحانية.
 

شرارة المواجهة
مساء الثلاثاء، اقتحمت مجموعة من الأمن الخاص قلالي الرهبان داخل الدير، لتخرج 11 راهبًا بالقوة وتغلق الدير أيامًا.
جاء ذلك في أعقاب سلسلة من الخلافات بين المطران داميانوس ومجمع الآباء، وصلت إلى تبادل بيانات اتهام حول شرعية الإدارة وسوء التصرف المالي.
وكانت محكمة استئناف الإسماعيلية قد أصدرت حكمًا نهائيًا في مايو الماضي يقضي بنزع ملكية 14 قطعة أرض تابعة للدير من أصل 71، بينها مزارع وحدائق، والإبقاء على 57 قطعة كـ"حق انتفاع"، وهو ما اعتبره الرهبان ضربة لأسس حياتهم اليومية.

الأزمة تعمّقت مع إقرار البرلمان اليوناني في يوليو قانونًا بإنشاء هيئة عامة في أثينا لإدارة ممتلكات الدير داخل مصر وخارجها، ما عُدّ مساسًا مباشرًا باستقلاليته التاريخية.
أعقب ذلك تصويت أخوية الدير على عزل المطران وانتخاب مجلس شورى جديد، لكن داميانوس رد بخطوات معاكسة شملت عزل المجلس والتحكم بالحسابات البنكية، لتدخل الأزمة مرحلة مواجهة مفتوحة.
 

بين الأرض والقانون
جذور الخلاف تعود إلى البعد العقاري والقانوني. فالحكم المصري الأخير رسخ مبدأ "حق الانتفاع" بدل الملكية المباشرة، بما يمنح الدولة سيطرة قانونية مرنة على أراضي الدير ومحيطه.
أما القانون اليوناني الجديد، فقد أعطى هيئة حكومية في أثينا ولاية مباشرة على ممتلكات الدير، بما في ذلك الأراضي والمخطوطات والأموال والأوقاف.
هذه الازدواجية خلقت تعارضًا بين التشريعين المصري واليوناني، وجعلت أي تصرف مالي أو قانوني مرتبط بالدير محل نزاع متعدد الأطراف.

من منظور الرهبان، القانون اليوناني محاولة لمحو استقلاليتهم وتحويل الدير إلى ورقة ضغط في العلاقات بين أثينا والقاهرة.
بينما ترى الدولة المصرية أن تنظيم ملكية الأراضي وفرض حق الانتفاع يضمن ضبط الأمن والسيادة في منطقة شديدة الحساسية، خصوصًا مع موقع الدير ضمن مشروع "التجلي الأعظم" لتطوير السياحة الدينية في سيناء.
 

السياسة فوق الروحانية
لم يعرف دير سانت كاترين أزمة بهذا الحجم منذ أكثر من أربعة قرون. الأزمة الحالية تتجاوز جدران الدير لتلامس ملفات إقليمية حساسة.
القاهرة تنظر إلى الدير كجزء من معادلة الأمن والسيادة في سيناء، وكورقة ضغط ناعمة في علاقتها مع أثينا في ملفات الغاز والطاقة والحدود البحرية.
أما اليونان، فترى في القانون الجديد وسيلة لترسيخ نفوذها الرمزي والروحي عبر إدارة ممتلكات الدير، مدعومة ببيانات وزارية تؤيد المطران داميانوس وتصفه بالأسقف الشرعي.

الكنيسة الأرثوذكسية في القدس بدورها انحازت إلى "مجمع الآباء" معتبرة أن لائحة الدير الداخلية لعام 1971 هي المرجعية الأساسية، فيما فضّل النظام المصري التزام الصمت العلني، مع الحفاظ على أدوات النفوذ والسيطرة القانونية.
 

تداعيات الأزمة وسيناريوهات المستقبل
الصراع الحالي يضع الدير أمام شلل قانوني وإداري يضر بالسياحة الدينية ويعطل إدارة أراضيه وأصوله.
السيناريو الأكثر ترجيحًا هو التوصل إلى تسوية ثلاثية صامتة توازن بين استقلالية الأخوية والولاية المصرية والاعتراف الرمزي بالمطران.
خيار آخر يتمثل في إعادة هيكلة داخلية تحت إشراف سيادي مباشر، يفرض على الدير بروتوكولات مالية وإدارية صارمة.
أما خيار التصعيد الدبلوماسي بين القاهرة وأثينا فمستبعد بسبب كلفته على الملفات الاستراتيجية الأوسع.
 

دير بين الروح والتاريخ والسياسة
يقف دير سانت كاترين اليوم عند تقاطع نادر بين الروحي والسياسي والاقتصادي.
الأزمة تكشف كيف تحوّلت مؤسسة روحية عمرها 1500 عام إلى ساحة صراع قانوني ودبلوماسي، يختبر حدود السيادة المصرية ويكشف طموحات يونانية متجددة.
وبينما يبقى الاستقلال الروحي للدير مرجحًا، فإن استقلاليته الإدارية والمالية مرشحة للتآكل تحت هيمنة الدولة المصرية وقوانين أثينا.
في النهاية، قد يُرسم مستقبل الدير عبر معادلة دقيقة: الاعتراف بروحانية الدير وإرثه التاريخي، مقابل إخضاع ممتلكاته وإدارته لرقابة الدولة ومصالحها الاستراتيجية.