في 19 أغسطس 2025، وقّع وزير التعليم في حكومة السيسي، محمد عبد اللطيف، مذكرة تفاهم مع شركة "ياماها كوربوريشن" اليابانية لتزويد 100 مدرسة حكومية بآلات موسيقية وتدريب معلمي الموسيقى، مع حديث رسمي عن أمل في التوسّع لاحقاً إلى ألف مدرسة.
ما يبدو خبراً لطيفاً عن الموسيقى، يفضح في الحقيقة ترتيب أولويات سلطة تُهمِل جذور أزمة التعليم: كثافات خانقة، نقص فادح في الفصول والمعلمين، وإنفاق عام يتراجع كنسبة من الناتج.
حتى إن الإعلان جاء ضمن حزمة صفقات مصر–اليابان، في لحظة تعاني فيها المدارس الحكومية من أوضاع أسوأها لا يعالجها عود كمان ولا بيانو.
دستور يقول 6%..
دستور 2014 ما بعد الانقلاب أوجب إنفاقاً لا يقل عن 6% من الناتج القومي على التعليم (4% ما قبل الجامعي و2% للجامعي)، والواقع يقول أن منظمات حقوقية وخبراء يثبتون أن الإنفاق الفعلي أدنى بكثير من هذا الالتزام، مع تفلّت مزمن من الاستحقاق الدستوري، هذا ليس تفصيلاً محاسبياً؛ إنه قرار سياسي يطيح بجودة التعليم لصالح بنود أخرى تتضخّم على حساب الإنسان.
وبحسب تقديرات موثّقة، تحتاج مصر إلى ما يقارب ربع مليون فصل دراسي لسد فجوة الاستيعاب، فيما تتراوح الكثافات في الفصول الحكومية المعلنة بين 43 و55 طالباً في المتوسط، وتصل في حالات إلى 200 طالب داخل حجرة واحدة.
في العام الدراسي 2023/2024 سجّل التعليم قبل الجامعي متوسطات كثافة تقترب من 50 طالباً في الفصل بالمرحلة الابتدائية، مع نسب مماثلة في الإعدادي، أرقام تجعل أي حديث عن "تعليم موسيقي" بمثابة ترف في منظومة تفتقر إلى الكرسي والمقعد والهواء.
إذا سألنا: لماذا لا تُبنى الفصول ولا يُعيَّن المعلمون؟ يكفي النظر إلى هيكل الإنفاق: خدمة الدين تلتهم ما يقارب نصف الإنفاق في مشروع موازنة 2024/2025 (قفزة ضخمة مقارنة بالسنوات السابقة)، مع عجز متفاقم تُقرّ به تقارير دولية رسمية.
معنى ذلك بسيط وخطير: كل جنيه إضافي يُدفع فائدة، هو جنيه يُنتزع من طباشير الفصل ومقعد الطالب.
لم تسلم وزارة التعليم من الهجوم السياسي والنقد اللاذع، حيث طالب ناشطون وسياسيون مثل عامر كمال عامر و الدكتور يحيى غنيم بفتح تحقيق في أسباب فشل التعليم وسياسات التجهيل التي تهدف إلى تحويل الشعب المصري إلى مجموعات متصارعة بدون وعي أو معرفة.
إنجاز بلا أثر نظامي
توفير آلات موسيقية لـ100 مدرسة، مهما حسنت النوايا، لن يغيّر حقائق المنظومة: عجز المعلمين، ضعف التدريب التربوي، المناهج المكدّسة، وتسريب تكاليف الدروس إلى جيوب الأسر المنهكة، حتى الوزير نفسه سبق وأن قدّم تقليص المواد في الثانوية العامة بوصفه تخفيفاً لعبء الأسر، بينما ربطت تقارير مستقلة القرار بمنطق التقشّف لا الإصلاح التربوي، وبأنه لا يمسّ جذور الأزمة: المعلم والفصل والتمويل.
التضخّم، وتآكل القوة الشرائية، ورفع أسعار الخبز المدعوم للمرة الأولى منذ عقود، كلها قرارات تؤكد أن الحكومة تُمرّر كلفة الأزمة إلى المجتمع، في بيئة كهذه، تتحوّل المدرسة الحكومية إلى خط الدفاع الأخير عن العدالة الاجتماعية، أي إنفاق رمزي على أنشطة رفيعة بلا أساس تمويلي صلب للبنية التحتيّة التعليمية هو تزيين للواجهة فيما الخرسانة تتصدّع.
مفارقة "ياماها".. آلات بلا معلمين كفاية
المذكرة تتحدث عن تدريب معلمي الموسيقى، لكن كم مدرسة لديها معلّم موسيقى أصلاً؟ وكم مدرسة لديها قاعات مجهّزة أو عزل صوتي أو صيانة؟ البيانات المتاحة تشير إلى فجوات حادّة في نسب المعلمين إلى الطلاب، وحاجة إلى عشرات الآلاف لسد العجز، قبل أن نسأل عن تخصّصات نوعية كالموسيقى، لذا، من منظور سياسة عامة، ترتيب الأولويات المنطقي يبدأ بتقليص الكثافات وبناء الفصول وتثبيت المعلمين، ثم يأتي إثراء المناهج بالأنشطة لا العكس.
سلطة السيسي اعتادت إطلاق مبادرات لامعة لا تغيّر المؤشرات الهيكلية: إنفاق عام أقل من الاستحقاق الدستوري، فجوات تعلم، كثافات قياسية، وعدم عدالة مكانية (محافظات أفقر تتحمّل الأشدّ).
المشاريع التي تُلتقط لها الصور من مدارس يابانية إلى أنشطة توكّاتسو أو موسيقى، تبقى محكومة بسقف مالي يقهر أي إصلاح حقيقي ما لم يُعاد تخصيص الموارد جذرياً لصالح التعليم العام المجاني الجيد.
تظهر الإحصاءات أن هناك حوالي 25.8 مليون طالب في المدارس، موزعين على أكثر من 62 ألف مدرسة، مع نحو 673 ألف فصل دراسي، وأكثر من 876 ألف معلم، إلا أن هذه الأعداد لا تبدو مجدية لأن الجودة مفقودة والبيئة التعليمية تعاني من الخلل المستمر.
نسبة نجاح الثانوية العامة في 2025 بلغت 79.2%، وهو مؤشر إيجابي ظاهري، لكنه لا يعكس جودة التعليم الأساسية والعميقة، حيث يشكو كثيرون من التلقين وعدم الفهم الحقيقي، مما يجعل المخرجات التعليمية غير صالحة لسوق العمل أو للإبداع.
ما المطلوب فوراً؟
- رفع الإنفاق الفعلي إلى الاستحقاق الدستوري مع شفافية محاسبية تمنع التجميل بالأرقام.
- خطة عاجلة لبناء الفصول لسد فجوة الـ250 ألف فصل، بجدول زمني ملزم وتمويل محمي.
- تعيين وتدريب المعلمين برواتب تحفظ الكرامة وتوقف نزيف الدروس الخصوصية.
- توجيه الشراكات الدولية (ومنها اليابانية) إلى البنية التحتية البشرية والمادية أولاً، على أن تُبنى أنشطة الفنون على نظام قادر على استيعابها لا على فصول مكتظّة.
موسيقى جميلة… في قاعة بلا مقاعد
أن تُدخل الموسيقى إلى المدارس فكرة تربوية محمودة في أي منظومة سليمة، لكن في مصر اليوم، تبدو مذكرة "التعليم -ياماها" عزفاً على أوتار الفشل: احتفاء إعلامي بلمعة ثقافية رقيقة، فيما التلاميذ يزاحمون بعضهم خمسيناً في فصل، والمعلم يئنّ، والميزانية تُنزف لخدمة دين يبتلع المستقبل.
بينما الوزارة تتحدث عن "تعليم متكامل" و"تنمية الإبداع والتميز"، يزحف الفقر التعليمي، وتزداد مشاكل النظام التعليمي تعقيدًا، فالمذكرة مع شركة ياماها مجرد طلاء صوتي على واقع مُهترئ في التعليم المصري.