تأتي جولة التفاوض الراهنة بين حماس وإسرائيل، بعد قرابة عامين من حربٍ مدمّرة أنهكت المجتمع الغزّي وأثقلت بيئة الإقليم، بينما لا تزال المقاومة ترى أنّ أيّ هدنة بلا مسارٍ واضح لوقف دائمٍ للنار، وانسحابٍ مرحليّ للقوات، وتدفّقٍ مضمونٍ للمساعدات وإعادة الإعمار، وتبادلٍ متوازنٍ للأسرى ليست إلا محطةً تكتيكية يجب التعامل معها بحذر.
الجديد في الأيام الأخيرة هو قبول حماس مقترح هدنة لمدة 60 يومًا مع تبادل على مراحل واشتراط التفاوض على وقفٍ دائم خلال فترة الهدنة، وهو تطوّر مهم يعكس براغماتية المقاومة في إدارة كلفة الحرب من جهة، والسعي لتثبيت مكاسب سياسية وإنسانية من جهة ثانية.
لكن، في المقابل، لم تحسم الحكومة الإسرائيلية موقفها؛ بل صعّدت عسكريًا وأعلنت خططًا لتوسيع العمليات واستدعاء عشرات الآلاف من الاحتياط، ما يشي بأنّ التفاوض يسير على سكة مزدوجة: مسار ورقيّ للتهدئة، ومسار ميدانيّ للضغط. هذا التباين يصعّب على المقاومة الركون إلى ضماناتٍ لفظية، ويدفعها إلى التركيز على آليات تنفيذ، وجداول زمنية، ومرجعيات رقابية لأي اتفاق، بدل الاكتفاء بصياغاتٍ عامة قابلـة للتأويل أو التعطيل.
البنود الرئيسية كما تُطرح على الطاولة
وفق ما تسرّب من الوسطاء المصريين والقطريين، وأكّدته تقارير غربية وعربية، يتضمن المقترح الذي قالت حماس إنها قبلته:
- هدنة لمدة 60 يومًا
- إطلاق سراح أكثر من نصف الأسرى المتبقّين على مراحل
- إفراجًا إسرائيليًا مقابِلًا عن مئات الأسرى الفلسطينيين بمن فيهم محكومون بالمؤبد
- تسهيلات إنسانية واسعة تشمل إدخال مساعدات عبر الأمم المتحدة والصليب الأحمر
- انسحابًا جزئيًا من مناطق مركزية داخل القطاع؛ مع التزامٍ بالتفاوض على وقفٍ دائم للنار خلال فترة الهدنة.
وتصرّ المقاومة، بحسب ما يُنشَر عن مواقفها، على ربط أي نقاشٍ حول ترتيبات أمنية لاحقة أو ملف السلاح بـمسارٍ سياسي نحو دولة فلسطينية وضماناتٍ حقيقية لرفع الحصار وإعادة الإعمار، بينما تشدد إسرائيل على الإفراج عن جميع الرهائن وترفض ما تعتبره “هدنًا جزئية” لا تُنهي قدرات المقاومة.
هذا التباين في “ترتيب الأولويات” هو لبّ العقدة في كل الجولات الأخيرة.
أين تقف إسرائيل؟ بين مراجعةٍ رسمية وتصعيدٍ ميداني
على المستوى الرسمي، تقول مصادر إسرائيلية إن الحكومة “تراجع” العرض الذي وافقت عليه حماس، فيما تُنقل تصريحات متشددة من مكتب رئيس الوزراء تقلّل من جدوى صفقاتٍ جزئية.
في الوقت نفسه، أقرّ وزير الدفاع خططًا لتوسيع الحرب والتحضير لعملية كبيرة في غزة، مع استدعاء نحو 60 ألفًا من قوات الاحتياط، وإطالة خدمة آخرين — وهو ما تقرأه المقاومة كإشارةٍ واضحة إلى استمرار استراتيجية الضغط العسكري بالتوازي مع التفاوض.
هذا النهج، الذي جمع بين التريّث السياسي والتصعيد الميداني، يُبقي احتمالات الهدنة هشّةً بلا قرار سياسي نهائي من تل أبيب.
بالنسبة إلى المقاومة، المؤشّر العمليّ على جدّية أي التزام إسرائيلي سيكون وقفَ القصف، ووقفَ الاقتحامات، وفتحَ الممرات الإنسانية بشكلٍ مستقر، لا مجرّد تصريحاتٍ عن “المراجعة”.
الخروقات الإسرائيلية:
تسند المقاومة اتهاماتِها بخروقاتٍ إسرائيلية إلى سلسلة وقائع ميدانية خلال محطات التهدئة السابقة والحالية:
- استمرار الغارات والقصف المدفعي
- أوامر إخلاء أحياء كاملة
- عرقلة دخول المساعدات
- استهداف مرافق مدنية بما في ذلك منشآت أممية ومرافق صحية
وقد وثّقت رسائل أممية وشهادات منظمات حقوقية نمطًا واسعًا من الانتهاكات.
في الأسابيع والأشهر الماضية، تحدّثت جهات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات حقوق إنسان — بينها أمنستي وشبكات منظمات إسرائيلية — عن انتهاكات جسيمة قد ترقى إلى جرائم دولية، مع أرقامٍ مرتفعة للضحايا المدنيين وتدميرٍ ممنهج للبنية الصحية والتعليمية.
كل ذلك يُقدَّم في خطاب المقاومة باعتباره سلوكًا بنيويًا لا حادثًا عرضيًا، ما يستدعي أن يتضمن أي اتفاق آليات مراقبة ومساءلة وليس فقط وعودًا سياسية.
وقف نارٍ حقيقي مقابل استحقاقات ملموسة
على صعيد الرؤية، يمكن تلخيص موقف المقاومة في النقاط الآتية:
- هدنة مؤقتة مشروطة بفتح مسارٍ ملزِم لوقف دائم للنار، لا هدنة “إنسانية” تُستخدم لالتقاط الأنفاس قبل جولة قتال جديدة.
- تبادل أسرى متوازن يشمل الإفراج عن أسرى ذوي أحكامٍ عالية، وتطبيق معايير إنسانية في تسليم الجثامين وإطلاق النساء والقُصّر.
- انسحابٌ مرحليّ للقوات الإسرائيلية من مناطق مركزية داخل غزة، مع إعادة انتشارٍ يضمن وقف الاحتكاك وحماية المدنيين.
- ضمان تدفق المساعدات بلا قيود سياسية، بإشراف الأمم المتحدة والصليب الأحمر، ورفعٍ تدريجي للحصار، يتلوه بدء إعادة الإعمار بإشرافٍ دوليّ يحافظ على استقلالية القرار الفلسطيني.
- مسار سياسي واضح نحو إنهاء الاحتلال وتقرير المصير، ورفض التجريد الأحادي من السلاح خارج تسويةٍ شاملة تتضمن دولة فلسطينية قابلة للحياة، وترتيبات أمنية متبادلة ومتفقًا عليها، وليس مفروضةً من طرفٍ واحد.
هذا الترتيب — كما تسرده تسريبات الوسطاء وتقارير الصحافة — يجعل الإنسانية والحقوق السياسية في قلب الصفقة، ويحوّل الهدنة من مجرد توقفٍ للنار إلى جسرٍ إلى تسويةٍ أوسع، وهو ما تعتبره المقاومة شرطًا لعدم تكرار دورات الحرب
الحسابات الإقليمية والدولية: وسطاءٌ أضخم وضغوطٌ متباينة
تُشير التقارير إلى نشاط مصري–قطري–تركي متزامن في الرعاية والضغط، مع مواقف متذبذبة من جانب واشنطن التي أيّدت سابقًا إطارًا قريبًا جدًا من الطرح الحالي.
تضيف عواصم أوروبية ثقلًا دبلوماسيًا، فيما لوّحت بعض الحكومات بالاعتراف بالدولة الفلسطينية إذا تعثّر وقف النار. بالنسبة للمقاومة، اتساع المظلّة العربية والتعهدات العلنية بدعم مسارٍ سياسي — بما فيها طرحٌ يتناول مستقبل السلاح مقابل الدولة — يمكن أن يُستثمر لانتزاع ضمانات تنفيذية في ملفات: المساعدات، إعادة الانتشار، وقواعد الاشتباك.
لكنّ الخشية قائمة من تحويل الضغط على غزة إلى ورقةٍ لتجريد المقاومة من أوراقها دون مقابلٍ سياسي حقيقي؛ لذا تُصرّ على مصادِر التزام مكتوبة وجدولٍ مضبوط وآلية تحقق أممية مستقلّة
لماذا تصر المقاومة على آليات التنفيذ؟
التجربة القريبة في جولات 2024–2025 أظهرت أن صياغاتٍ مرِنة حول “تسهيل المساعدات” أو “خفض العمليات” كانت تُفرَّغ عمليًا عبر حواجز بيروقراطية وإجراءات ميدانية: إغلاقاتٍ متكررة للمعابر، قيود تفتيش صارمة، أو قصفٍ يستأنف بذريعة عملياتٍ موضعية.
ولهذا تضع المقاومة اليوم تفاصيل تقنية في صلب أي ورقة: عدد القوافل اليومية، نقاط التفتيش، أنواع المواد (وقود/معدات طبية/مياه)، ساعات مرور آمن، خرائط مناطق خفض الاحتكاك، وتعهدات بإعادة تشغيل المستشفيات والمدارس تدريجيًا.
كذلك تطلب جدولًا زمنيًا لإعادة الانتشار، وتحديد قوائم الأسرى بالأسماء والفئات، وربط كلّ مرحلة بإجراءٍ ملموس (إطلاق دفعة أسرى/سماح بدفعات إعمار/فتح ممرات).
من منظورها، الهدنة الجادّة تُقاس بما يصل إلى الناس لا بما يُكتب في بيان.
السيناريوهات المتوقعة
السيناريو الأول: هدنةٌ تتقدّم إلى وقفٍ دائم. يتحقق إذا وافقت إسرائيل رسميًا على المقترح مع تسلسلٍ واضح للتبادل والانسحابات وتدفّق الإغاثة، وبدء حوارٍ سياسي أوسع برعايةٍ عربية–دولية.
سترى المقاومة فيه انتصارًا تكتيكيًا يحفظ قواها المدنية والميدانية ويُخرج الناس من حافة المجاعة.
السيناريو الثاني: هدنةٌ هشة تحت النار. تُبقي إسرائيل على عملياتٍ موضعية/قصفٍ متقطّع بحجّة “ملاحقة خلايا” مع تسويفٍ إداري في المساعدات.
هنا ستدفع المقاومة باتجاه تدويل الخروقات والضغط عبر الوسطاء لتفعيل آليات جزائية (تعليق مراحل التبادل/التجميد المرحلي للتعاون اللوجستي) لحمل إسرائيل على الالتزام.
السيناريو الثالث: انهيار المسار وتصعيدٌ واسع. يتغذّى على قرارٍ سياسي إسرائيلي بالمضيّ في توسيع العملية داخل غزة، مع فشل الوسطاء في كبح التصعيد.
في هذا المسار، ستعتمد المقاومة على الحرب غير المتكافئة وتكثيف الضغط السياسي والإعلامي والقانوني لفرض ثمنٍ عالٍ على استمرار الحرب وإعادة فتح مسار تفاوضي من موقعٍ أفضل
خلاصة الموقف
من زاوية المقاومة، المقترح المقبول لوقف النار ليس غاية في ذاته بل وسيلة لتغيير قواعد الاشتباك: من قصفٍ شامل بلا سقف إلى هدنةٍ ملزِمة تقود إلى وقف دائم للنار، وانفراجٍ إنساني، وتبادلٍ متوازن للأسرى، وبدء إعادة الإعمار برعايةٍ أممية–عربية، على أن يترافق ذلك مع مسارٍ سياسي واضح نحو إنهاء الاحتلال
. ما لم تتحوّل هذه المبادئ إلى نصوصٍ قابلة للتنفيذ بإشرافٍ ورقابة مستقلّين، فستظلّ الهدنة وعودًا معلّقة.
أما في حال إصرار إسرائيل على التصعيد تحت غطاء مراجعة العروض، فإن المقاومة ستتعامل مع أي هدنةٍ باعتبارها حيّزًا لإعادة التموضع وحماية المجتمع، لا تنازلًا عن ثوابتها أو قبولًا بإدامة حالة “لا حرب/لا سلام”.
بهذا المعنى، المعركة السياسية اليوم لا تقلّ شراسةً عن الميدان: من يفرض جدول الأعمال؟ ومن يملك تعريف “الالتزام” و”الخرق”؟
والإجابة، كما تراها المقاومة، تمرّ عبر ضماناتٍ صلبة وآليات عقابية لأي طرفٍ ينكث، لا سيما أنّ سجلّ الخروقات الإسرائيلي في نظرها وفي تقارير حقوقية أممية وإسرائيلية ثقيلٌ ومُمنهَج.
فإذا أمكن تثبيت وقف النار وربطه بمسار حقوقيّ وسياسيّ واضح، قد يشكّل هذا أول انتقال جدّي من منطق الحرب المفتوحة إلى منطق التسوية المشروطة بالعدالة؛ وإن تعذّر، ستبقى غزة ومعها المنطقةعالقةً في الزمن الدائري للحرب.