أقدمت حكومة عبدالفتاح السيسي، على هدم مسرح فاطمة رشدي المعروف شعبيًا باسم "المسرح العائم"، أحد أبرز معالم التراث المسرحي في مصر والشرق الأوسط.
القرار جاء وسط صمت رسمي، وبنفس الطريقة التي هُدمت بها مواقع أثرية وتاريخية سابقة، مثل المبنى الأثري في قلعة صلاح الدين الذي أُزيل في فبراير 2024.
ازدواجية رسمية فاضحة
المفارقة أن عملية الهدم تزامنت مع قيام الجهاز القومي للتنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة بإدراج اسم رائدة المسرح المصري فاطمة رشدي ضمن مشروع "حكاية شارع" لتخليد ذكراها، وهو ما اعتبره فنانون ونقاد دلالة على التناقض الصارخ في السياسات الرسمية تجاه التراث الثقافي.
احتجاجات فنية لم تُسمع
القرار صدر في أكتوبر 2024، بحسب ما أعلنت الفنانة القديرة سميحة أيوب التي قادت حملة واسعة لرفض هدم المسرح أو أي مسرح مصري آخر، وانضم إليها نخبة من المثقفين والفنانين بينهم الناقد والمؤرخ المسرحي عمرو دوارة، والممثل محمد علي رزق، والموسيقار هشام جبر، وأستاذة النقد والدراما سامية حبيب، لكن رغم الأصوات الرافضة، مضت الجرافات في طريقها.
تقارير متداولة أشارت إلى أن مسؤولين حكوميين زاروا المسرح أكثر من مرة لقياس مساحته، وسط تكهنات بأن الأرض التي يشغلها المسرح لم تُعامل كمكان تراثي وإنما كقطعة أرض "ذهبية" على ضفاف النيل تصلح للاستثمار العقاري أو التجاري.
غياب المسؤولية من وزارة الثقافة
في خضم الغضب الشعبي، وُجهت انتقادات لاذعة لوزارة الثقافة ووزيرها أحمد فؤاد هنو الذي تهرب من تحمل المسؤولية بحجة عدم اطلاعه رسميًا على مخطط منطقة المنيل الحضري.
وهو الموقف الذي أعاد للأذهان ملفات مشابهة، مثل إهمال متحف نبيل درويش، ما دفع مثقفين للتساؤل: هل تعتبر الحكومة الثقافة والتراث مجرد "قضية مقاولات"؟
مبررات واهية
مصدر من محافظة القاهرة برر الهدم باعتبار المسرح "خرابة" ومغلق منذ سنوات، في وقت كان البيت الفني للمسرح قد أعلن عام 2019 خططًا لتجديده وإعادة افتتاحه، لكن المشروع لم يرَ النور.
الأمر الذي غذّى شكوكًا حول وجود نية مبيتة لإزالة المسرح منذ سنوات.
تاريخ مسرح عريق
المسرح العائم أسس في خمسينيات القرن الماضي كمركب عائم على النيل، تجربة فريدة جذبت جماهير المسرح بكثافة.
لاحقًا، شُيد مسرح ثابت في الموقع ذاته، وفي السبعينيات أُطلق عليه اسم مسرح فاطمة رشدي تكريمًا للفنانة الملقبة بـ"سارة برنار الشرق الأوسط".
على خشبته وقف كبار النجوم، وظل لعقود المسرح العائم الوحيد في الشرق الأوسط، وواجهة فنية نادرة تطل مباشرة على مياه النيل.
الأهمية التاريخية تتجاوز العصر الحديث، إذ يوضح المؤرخ المسرحي بلاند سيمبسون في كتابه إلى بلاد الصوت أن فكرة "المسارح العائمة" تعود جذورها إلى الحضارة المصرية القديمة، حيث كان المصريون يستخدمون القوارب لتقديم عروض تمثيلية وغنائية وراقصة على النيل ضمن طقوسهم الاجتماعية والدينية.
واليوم، وبعد آلاف السنين، يُمحى هذا الامتداد الحضاري بقرار هدم سريع.
منطق المقاولات بدل الاقتصاد
هدم المسرح العائم ليس حالة منفردة، بل يندرج ضمن سياسة أوسع وُصفت بـ"منطق المقاولين".
فقد سبق أن شهدت مصر هدم حديقة الزمالك التراثية على النيل لإنشاء جراج، والاعتداء على حديقة الميرلاند التاريخية لتشييد مطاعم وصالات ألعاب، فضلًا عن تحويل مساحات من حديقة المتحف المصري إلى أكشاك وبازارات إسمنتية.
ويرى خبراء أن مصر، بما تمتلكه من تراث عالمي وآثار وتاريخ ومقومات طبيعية، كان بإمكانها أن تتحول إلى قبلة سياحية كبرى، على غرار دول إقليمية أقل ثراءً حضاريًا لكنها استطاعت بفضل التخطيط السليم أن تحقق تفوقًا لافتًا.
إلا أن استمرار التعامل مع التراث بمنطق الربح السريع يحرم الدولة من اقتصاد حقيقي قائم على الثقافة والسياحة.