في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، كشفت وسائل إعلام عبرية عن أن المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينيت) بصدد مناقشة خطة عسكرية جديدة، تستهدف احتلال مدينة غزة ومخيمات وسط القطاع، في عملية قد تمتد إلى 4 أو 5 أشهر.

ووفق ما ورد، فإن الخطة تشمل محاولة لدفع سكان القطاع نحو الجنوب، في سياق ما وصفه مراقبون بأنه سياسة ترحيل ناعمة، هدفها إفراغ مدينة غزة من سكانها وخلق وقائع ديموغرافية على الأرض، في تحدٍ صارخ للقانون الدولي.

لكن على الرغم من مضي المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية قدمًا في تلك الرؤية العدوانية، فإن المعارضة الداخلية تتسع يوماً بعد يوم. فقد بات واضحًا أن الشارع الإسرائيلي، وبعض الأوساط العسكرية والاستخباراتية، ينظرون بقلق شديد لهذه الخطط، وسط تساؤلات عن جدواها وكلفتها، لا سيما في ظل تعثر تحرير الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، وتصاعد الخسائر العسكرية.

أولاً: ما أهداف إسرائيل من الخطة الجديدة؟

من خلال التحليل المبدئي للمقترحات المتداولة في الإعلام العبري، يمكن تلخيص الأهداف الإسرائيلية من هذه العملية الطويلة فيما يلي:

1. احتلال كامل لمدينة غزة

تلجأ إسرائيل إلى هذه الخطوة في محاولة لفرض "سيطرة شاملة" على مناطق شمال القطاع، بعد أن عجزت عمليًا عن فرض واقع أمني مستقر فيها، رغم شهور من القصف والمداهمات البرية.

الجيش الإسرائيلي لم يتمكن من إنهاء المقاومة في غزة، بل يُواجه عمليات استنزاف متواصلة من كتائب القسام وسرايا القدس وفصائل أخرى، خاصة في مدينة غزة ومخيماتها، وهو ما يُعد إحراجًا إستراتيجيًا لحكومة بنيامين نتنياهو.

2. تفريغ الشمال من السكان

تشير التقارير إلى أن أحد أبرز أهداف الخطة هو دفع الفلسطينيين لمغادرة الشمال قسرًا باتجاه الجنوب، وهو ما يتقاطع مع الرغبة الإسرائيلية القديمة بإحداث تغيير ديموغرافي في القطاع، في إطار ما يسميه البعض بـ"الترانسفير الهادئ".

إسرائيل تعتقد أن خلو مدينة غزة من المدنيين سيسهل العمليات العسكرية، ويقلل الضغط الدولي، لكنها في الحقيقة تمهد لأخطر عملية تهجير قسري جماعي منذ نكبة 1948.

3. الضغط على حماس والمقاومة

إسرائيل تسعى من خلال هذه العملية إلى الضغط على حركة حماس من خلال تشديد الخناق العسكري والسكاني في الشمال، على أمل كسر صمود مقاتلي المقاومة الذين ما زالوا يحتفظون بقدرات ميدانية مؤثرة.

لكن التجربة أثبتت أن الضغط لا يُنتج استسلامًا، بل غالبًا ما يعزز التفاف الجمهور حول المقاومة، كما حدث في مراحل سابقة من الحرب.

4. تعزيز موقف نتنياهو سياسيًا

من منظور داخلي، يبدو أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يسعى لاستثمار أي تقدم عسكري في غزة لصالحه، خصوصًا في مواجهة حالة السخط الشعبي المتصاعدة، وفشل حكومته حتى الآن في استعادة الأسرى أو تقديم تصور سياسي للخروج من الحرب.

ثانيًا: المخاوف المتصاعدة داخل إسرائيل

رغم النبرة الرسمية المتشددة، فإن داخل إسرائيل تتزايد أصوات معارضة وقلق من هذه الخطة، خصوصًا مع تعثر العمليات البرية السابقة، ووقوع الجيش الإسرائيلي في كمائن استنزاف ثقيلة.

1. عائلات الأسرى: لا تقتلوا أبناءنا

من أبرز الأصوات المعارضة للخطة، هي عائلات الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة، والذين خرجوا في مظاهرات متكررة خلال الأشهر الماضية مطالبين بإبرام صفقة تبادل قبل أي عملية عسكرية واسعة.

يرى هؤلاء أن استمرار العمليات العسكرية يهدد حياة الأسرى، كما أن أي تصعيد في مدينة غزة -حيث يُعتقد أن بعض الأسرى محتجزون- قد يُؤدي إلى فقدانهم نهائيًا.

كما اتهمت عائلات الأسرى حكومة نتنياهو بـ"المقامرة السياسية على حساب حياة أبنائهم"، متهمة إياه بالتهرب من اتخاذ قرارات صعبة تفضي إلى الصفقة.

2. الجيش الإسرائيلي يعاني من الإجهاد والإنهاك

وفقًا لتقارير داخلية نشرتها صحف عبرية مثل "هآرتس" و"معاريف"، فإن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تعاني من انخفاض حاد في المعنويات والإرهاق الشديد لدى الجنود، لا سيما أولئك المنتشرين في غزة منذ شهور طويلة.

يشير بعض القادة العسكريين السابقين إلى أن الجيش غير جاهز لحملة طويلة أخرى بهذا الحجم، خاصة في بيئة معقدة كمدينة غزة، التي تحولت إلى ساحة معارك شوارع يصعب السيطرة عليها.

3. صدام داخل الكابينيت الأمني

تسربت معلومات عن خلافات حادة بين أعضاء المجلس الوزاري المصغر، بين من يطالب بإنجاز صفقة تبادل أولًا، ومن يدفع نحو الحسم العسكري، وسط اتهامات لنتنياهو بأنه يُماطل في الملف لأسباب تتعلق ببقائه السياسي، وليس بمصلحة الدولة.

شخصيات مثل وزير الجيش يوآف غالانت، ورئيس الشاباك رونين بار، أشاروا في جلسات مغلقة إلى صعوبة تحقيق نصر واضح في غزة، حتى مع احتلال جغرافي كامل.

ثالثًا: الخطة في ميزان القانون الدولي

إذا ما نُفذت هذه الخطة، فإنها ستُعد تصعيدًا خطيرًا في خروقات إسرائيل للقانون الدولي الإنساني، لا سيما أن عمليات التهجير القسري للسكان المدنيين تُعد جرائم حرب بموجب اتفاقيات جنيف.

كما أن استهداف مناطق مكتظة مثل مخيمات الشاطئ والنصيرات والبريج والمغازي سيؤدي بلا شك إلى مجازر جماعية جديدة، على غرار ما حدث في رفح وخان يونس ودير البلح.

ومن المتوقع أن تثير هذه العملية – إن تمت – ردود فعل دولية غاضبة، خصوصًا من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان التي وثقت بالفعل آلاف الانتهاكات منذ بدء الحرب.

رابعًا: سيناريوهات المستقبل

تضع هذه الخطة إسرائيل أمام عدة سيناريوهات خطرة، منها:

استمرار الفشل العسكري رغم السيطرة الجغرافية.
ارتفاع الخسائر البشرية في صفوف الجيش، مما يزيد النقمة الشعبية.
تعثر أو انهيار ملف التبادل نهائيًا.
تصعيد المقاومة من خلال حرب أنفاق جديدة داخل المدينة.
مزيد من العزلة الدولية وتزايد الضغط على إسرائيل أمام محاكم دولية.
تبدو خطة إسرائيل لاحتلال مدينة غزة ومخيمات الوسط خطوة تصعيدية تُخفي خلفها أهدافًا سياسية أكثر منها عسكرية. وبينما يُحاول نتنياهو بيع الوهم للداخل الإسرائيلي بقدرة جيشه على "الحسم"، تظهر المعارضة الداخلية الواسعة التي تحذر من أن التمادي في الحرب قد يُكلف إسرائيل أكثر مما تتحمله.

الواقع على الأرض يقول إن المقاومة ما زالت صامدة وقادرة على إلحاق الأذى بالجيش الإسرائيلي، وإن أي عملية احتلال بري موسعة ستفتح أبواب جحيم جديدة، لن تكون إسرائيل قادرة على إغلاقها بسهولة.