في قلب أكثر المناطق تضررًا على وجه الأرض، وسط أنقاض مدينة غزة المحاصرة، ظهرت شركة أمنية أمريكية تُدعى UG Solutions كلاعب رئيسي في مشهد إنساني يُفترض أن يكون محايدًا. تم التعاقد مع هذه الشركة، التي يرأسها ضابط سابق في القوات الخاصة الأمريكية، لتأمين قوافل المساعدات في غزة ضمن ما يسمى "ممرات إنسانية" تديرها مؤسسة جديدة مدعومة أمريكيًا تُعرف باسم Gaza Humanitarian Foundation (GHF).
لكن وظيفة UG Solutions لم تتوقف عند "التأمين". فالمشاهد القادمة من شوارع غزة، والمقاطع المصوّرة التي تسربت من كاميرات أجنبية ومحلية، أظهرت حراسًا مسلحين من جنسيات أمريكية مختلفة، يطلقون النار على فلسطينيين يسعون للحصول على مساعدات غذائية، وسط فوضى وانعدام تام للثقة. هؤلاء ليسوا مجرد موظفين أمنيين، بل محاربون سابقون جُلّهم من الوحدات القتالية الأمريكية النخبوية، يتقاضون أجورًا تصل إلى 1100 دولار يوميًا، وقد حصل بعضهم على سُلف فورية تتجاوز 10 آلاف دولار قبل الدخول إلى غزة.
ما الذي تفعل شركة أمنية أمريكية خاصة في قطاع محاصر؟ ولماذا يتهمها الفلسطينيون وحقوقيون دوليون باستخدام المساعدات كغطاء لنشر الرعب؟ وما علاقتها بمشروع "كسر إرادة غزة" الذي يتبلور رويدًا تحت أعين المجتمع الدولي؟
فصول من واقع مظلم: كيف بدأت القصة؟
تعود جذور الظاهرة إلى ربيع عام 2025، حين أعلنت الولايات المتحدة عن دعمها لإنشاء مؤسسة بديلة لتوزيع المساعدات في غزة، بعد تراجع وكالة "الأونروا" عن التورط في "مناطق آمنة" تُدار بتنسيق إسرائيلي مباشر. المؤسسة الجديدة، GHF، بدت في ظاهرها مدنية، لكنها استعانت منذ لحظاتها الأولى بشركات أمنية أمريكية لتولي المهام "الحساسة" على الأرض.
وهنا برزت UG Solutions. الشركة كانت معروفة سابقًا بتقديم خدمات حراسة في مناطق مثل العراق وأفغانستان، وغالبية موظفيها قاتلوا سابقًا في بيئات حروب حضرية ضد جماعات مسلحة. هذه الخلفية لم تكن ملائمة لأي دور إنساني في غزة، لكنها بالضبط ما أرادته المؤسسة الجديدة في سياق توزيع "المساعدات" بالقوة.
المساعدات كمسرح للاشتباك
منذ دخول UG Solutions إلى غزة، لم تكن أي من قوافل المساعدات تمر دون اشتباكات أو سقوط ضحايا. شهد شهود عيان ومقاطع مصوّرة عمليات إطلاق نار مباشرة، ليس فقط في الهواء، بل أحيانًا باتجاه الحشود، دون سابق إنذار. في أحد التسجيلات المسربة، يمكن سماع أحد المرتزقة يقول لصديقه: "هذه طلقات تحذيرية... من جهتنا"، بينما يختبئون خلف حاويات ويحاولون "ضبط" الحشود.
في خلفية المشهد، يطلب أحدهم دعمًا من القوات الإسرائيلية، ما يؤكد التنسيق المشترك. وتُظهر المقاطع أن المرتزقة لا يتحدثون العربية، ويبدون في حالة ارتباك كامل، يصفون الوضع بأنه "ساعة الهواة" أو "عشوائي تمامًا"، ما يُبرز هشاشة وفوضوية هذا النوع من العمل شبه العسكري في بيئة مدنية.
تواطؤ وغطاء سياسي
المثير للريبة أن مؤسسة GHF لم تنكر استخدام الشركات الأمنية، بل حاولت التخفيف من الأمر إعلاميًا، قائلة إن المرتزقة مجرد "حراس أمن" لضمان سلامة المساعدات. لكن الحقيقة أن هذه القوات هي واجهة علنية لحرب ناعمة تقودها الولايات المتحدة في غزة.
الشخصيات التي تقف خلف UG Solutions ومثيلاتها ليست بعيدة عن الأوساط الاستخباراتية. على سبيل المثال، Safe Reach Solutions، الشركة التي تنسّق الجانب اللوجستي لـGHF، يقودها عميل سابق في وكالة الاستخبارات المركزية. أما أول مدير تنفيذي لـGHF، الجندي الأمريكي السابق Jake Wood، فقد استقال بمجرد أن أدرك أن المشروع لم يعد إنسانيًا، بل أمنيًا محضًا.
وفي خطوة فُسرت على أنها تعميق للتحيّز، تم تعيين Johnnie Moore – أحد أبرز رجال الإنجيليين في واشنطن – في منصب الرئيس التنفيذي الجديد. موور معروف بدعمه الأيديولوجي لإسرائيل ورفضه لخطاب الأمم المتحدة حول حقوق الفلسطينيين، ما أثار شكوكًا واسعة حول النوايا الحقيقية وراء العمل الإنساني المزعوم.
عقوبات بلا قانون وجرائم تحت مظلة إنسانية
الانتهاكات المتكررة من قبل مرتزقة UG Solutions دفعت العديد من النشطاء الحقوقيين إلى إطلاق تحذيرات. من أبرز هؤلاء، المحامي الأممي الشهير Craig Mokhiber، الذي اعتبر استخدام شركات أمنية أمريكية لمرافقة المساعدات سلوكًا يرقى إلى "الخيانة" حسب القانون الإنساني الدولي.
وقال موخيبر إن إطلاق النار على المدنيين أثناء توزيع المساعدات، واستخدام القوة من قبل كيانات غير خاضعة لأي قانون رسمي، قد يندرج ضمن جرائم الحرب، بل يشكل انتهاكًا صارخًا لمبدأ "الحياد الإنساني"، مضيفًا: "ما نراه هو استغلال للمساعدات من أجل فرض إرادة سياسية وعسكرية على المدنيين الجوعى."
وتؤكد تقارير وكالة "أسوشيتد برس" أن حوالي ثلث عمليات التوزيع التي تمت في غزة خلال شهري مايو ويونيو 2025 انتهت بإصابات في صفوف المدنيين، وبعضها بأعيرة نارية مباشرة.
المقاومة المدنية ومخاطر التصعيد
داخل غزة، لم تمر هذه التطورات دون رد فعل. فالمقاومة الفلسطينية، التي تواجه إسرائيل عسكريًا منذ شهور، بدأت ترفض بشكل علني المساعدات القادمة عبر UG Solutions، وتعتبرها "أداة اختراق أمني ومخابراتي".
بعض الفصائل المسلحة بدأت تستهدف قوافل المساعدات المدعومة أمريكيًا، لا بوصفها "مساعدات"، بل كقواعد تجسس متحركة. كذلك، ازداد التوتر في الأحياء التي تُفرض عليها هذه القوافل، وظهرت حالات شغب وانتفاضات شعبية، رفضًا لما بات يُعرف باسم "مساعدات الخنوع".
نهاية الحياد الإنساني
أخطر ما في هذا المشهد، أن غزة باتت أول منطقة في التاريخ الحديث تُستخدم فيها شركات أمنية أمريكية مدججة بالسلاح، لإدارة العمل الإنساني. هذا التحوّل غير المسبوق يُنذر بمستقبل قاتم للعمل الدولي في مناطق النزاع، ويضع مصداقية "الإغاثة الإنسانية" موضع شك خطير.
تحوّلت قوافل الغذاء إلى نقاط تفتيش أمنية، وتحولت طوابير العوائل الجائعة إلى أهداف محتمَلة للرصاص. كل هذا يجري وسط صمت دولي يكاد يكون متواطئًا، وصحافة غربية تركز على "أمن الموظفين الأمريكيين" بدلاً من الضحايا المدنيين.
غزة تحارب الجوع... والهيمنة
لم تعد المسألة تتعلق بالغذاء أو الدواء، بل بالكرامة والسيادة. حين تقتحم شركات أمنية أمريكية شوارع غزة، تطلق النار على سكانها الجوعى، وتزعم أنها "تحمي المساعدات"، فإن المسألة تتجاوز الإغاثة. إنها محاولة لتطويع الشعب الفلسطيني، وتفكيك مقاومته، وتحويل المساعدات إلى أداة تطبيع وهيمنة.
لكن كما هو معتاد، غزة تقاتل بأدواتها، ورفض أهلها هذه القوافل ليس رفضًا للطعام، بل رفضًا للإذلال.