أثار الإعلامي والصحفي المصري إبراهيم عيسى موجة من الجدل السياسي في الأوساط المصرية والعربية بعد أن وجّه انتقادات حادة وغير مسبوقة لنظام عبد الفتاح السيسي خلال ظهوره الإعلامي أواخر يونيو 2025، حيث حمّل النظام مسؤولية الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في البلاد، متحدثًا عن "فشل في الإدارة، وتغوّل في عسكرة الدولة، وانفصال تام بين النخبة الحاكمة والواقع الشعبي".
هذا الهجوم، وإن لم يكن الأول من نوعه تمامًا، إلا أنه يعتبر الأكثر جرأة وصراحة منذ انقلاب يوليو 2013، خاصة أن عيسى لطالما اعتُبر من أبرز الأصوات الإعلامية الداعمة للنظام، إن لم يكن أحد أبواقه الأكثر صخبًا.
الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة: لماذا الآن؟ وما الدلالة السياسية لهذا التحول؟ وهل يعكس خلافًا داخليًا في أروقة السلطة، أم أنه مجرد "تنفيس محسوب" لغضب الشارع المتصاعد؟
ما الذي قاله إبراهيم عيسى؟
في تصريحات متلفزة وأخرى عبر منصات التواصل الاجتماعي خلال يوليو 2025، وصف إبراهيم عيسى مصر بأنها "دولة الفرد الواحد"، محذراً من أن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى سقوط النظام وعودة جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة، وهو ما اعتبره مراقبون بمثابة تحذير شديد اللهجة من الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد.
كما أشار عيسى إلى أن الأزمات التي تعاني منها مصر "ألعن من سورية والعراق"، في إشارة إلى عمق وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي لم يعد النظام قادراً على معالجتها بفعالية، وهو ما يعد خروجاً عن الخطوط الحمراء التي كان يلتزم بها في السابق
في حلقة بتاريخ 28 يونيو 2025 من برنامجه "حديث القاهرة"، بثت عبر قناة "القاهرة والناس"، قال عيسى بالنص: "لا يوجد أي مبرر لاستمرار الفشل بهذا الشكل، المواطن يدفع ثمن القرارات الاقتصادية المتهورة، والسلطة تظن أن الشعب عليه أن يتحمل إلى الأبد، من يحكم عليه أن يشعر بالشعب، لا أن يعيش في قصور محصنة بعيدًا عن الواقع."
وأضاف: "العاصمة الإدارية ليست هي مصر، ولا الأبراج هي التنمية، الغلاء والانهيار الاقتصادي هما الحقيقة الوحيدة التي لا تراها السلطة، والإعلام الرسمي يعيش في إنكار."
تصريحات عيسى جاءت في خضم تصاعد الغضب الشعبي بسبب ارتفاع أسعار الوقود بنسبة 18% في يونيو 2025، وزيادة أسعار السلع الأساسية بمعدل 30-50% مقارنة بشهر رمضان الماضي.
لم يصدر إلى الآن رد رسمي مباشر من رئاسة الانقلاب المصرية على هجوم إبراهيم عيسى، لكن مصادر مقربة من النظام تشير إلى أن هناك حالة من القلق من تصاعد مثل هذه الانتقادات من داخل أوساط الإعلام المؤيد، ما قد يشير إلى وجود توترات داخلية غير معلنة
في المقابل، يرى آخرون أن عيسى يحاول استباق سقوط محتمل للنظام، فاختار أن يعلن موقفه المعارض علناً ليحجز لنفسه مكاناً في المشهد السياسي القادم، مستفيداً من خبرته الإعلامية وشبكة علاقاته الواسعة. هذا التفسير يتماشى مع توقعاته المعلنة بسقوط النظام قريباً وعودة الإخوان، وهو ما يشير إلى أن الهجوم ليس فقط نقداً بل إعلان تحالفات سياسية جديدة محتملة.
هل هي المرة الأولى؟
ورغم أن إبراهيم عيسى عُرف بمواقفه الحادة ضد الإسلاميين وتأييده لانقلاب يوليو 2013، إلا أنه في السنوات الأخيرة أبدى تحفظات عرضية على أداء الحكومة، خاصة فيما يتعلق بحرية الفكر، والتعليم، والإنفاق المبالغ فيه على مشروعات غير إنتاجية ، إلا أن الفارق الجوهري هذه المرة هو حدة الانتقاد ووضوحه، بالإضافة إلى توجيهه للسيسي نفسه وليس لحكومته أو وزرائه فقط.
في نوفمبر 2023، على سبيل المثال، انتقد عيسى مشروع المليون وحدة سكنية قائلاً إنه "بلا رؤية اقتصادية"، لكنه لم يذكر الرئيس بالاسم. بينما الآن، بدا خطابه وكأنه "شهادة داخلية على فشل المنظومة بالكامل"، مما أثار استغراب حتى المعارضين أنفسهم.
ما دلالة هذا الهجوم؟
يقول الدكتور مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إن "خروج إبراهيم عيسى بهذا الشكل لا يمكن أن يكون عفويًا بالكامل"، ويضيف: "إما أن هناك خلافًا فعليًا داخل النظام، أو أن بعض الأجهزة بدأت في إرسال رسائل لامتصاص الغضب الشعبي... من خلال السماح لأصوات قريبة من الدولة بالتنفيس المؤقت."
في السياق ذاته، يرى الخبير الاقتصادي مدحت نافع أن الهجوم يعكس إدراكًا متزايدًا حتى في أوساط النخبة الإعلامية بأن الاقتصاد ينهار بالفعل، وأن صندوق النقد الدولي قد يطلب شروطًا أكثر قسوة في المراجعة المرتقبة في سبتمبر 2025.
وأشار نافع إلى أن "السيطرة على الإعلام لم تعد تضمن التحكم في الرأي العام كما كان الحال قبل 2018"، وأن "الانفجار الاجتماعي بات أقرب مما يتخيل الكثيرون في السلطة، وبالتالي قد تكون هناك محاولات لتقديم قربان سياسي أو إعلامي".
هل هناك صراع داخلي؟ أم مجرد لعبة مكشوفة؟
يرجّح بعض المحللين أن تصريحات إبراهيم عيسى قد تكون مقدمة لحملة إعادة تموضع إعلامية داخل النظام نفسه، خاصة بعد أن ترددت أنباء عن توتر بين الأجهزة السيادية حول التعامل مع ملف الاقتصاد، وسط تقارير صحفية (لم تؤكد رسميًا) عن وجود خلافات بين الجيش والمخابرات العامة بشأن بعض السياسات الاستثمارية، خصوصًا بعد فشل عدد من مشروعات الصندوق السيادي المصري، وانخفاض إيرادات قناة السويس بنسبة 35% في النصف الأول من 2025.
الجمهور يشكك: "ليس صادقًا، بل مأمور!"
على مستوى ردود الفعل الشعبية، جاءت أغلب التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي ساخرة أو مشككة، فكتب أحد المستخدمين على "X" تويتر سابقًا: "إبراهيم عيسى طلع اتنقل من دور البوق لدور صمام الأمان... كل ده محسوب."
بينما قال آخر: "ما تتكلمش بعد 10 سنين تطبيل... فات الأوان."
هذا التوجس من صدق نوايا عيسى يعكس مدى تآكل الثقة الشعبية في الشخصيات الإعلامية المحسوبة على النظام، حتى حين تبدأ بانتقاد نفس النظام.
هل نحن أمام تحول حقيقي أم خدعة جديدة؟
في ظل غياب أي معارضة فعلية داخل مصر، ووسط تضييق خانق على الإعلام المستقل، يبقى هجوم إبراهيم عيسى ظاهرة لافتة، لكنها لا ترقى بعد لتكون مؤشرًا على تحوّل جوهري في بنية النظام، بل قد تكون جزءًا من استراتيجية أوسع للالتفاف على الغضب الشعبي أو إعداد الرأي العام لتغييرات قادمة في الحكومة.
وتبقى الأيام القادمة كاشفة.. هل سيواصل إبراهيم عيسى هجومه؟ أم سيعود إلى الصف؟ وهل النظام فعلاً يتصدّع من الداخل؟ أم ما زال ممسكًا بكل الخيوط؟