بقلم: علي نور الدين

بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب مطالباته بزيادة الإنفاق الدفاعي لدول حلف شمال الأطلسي (ناتو) منذ عام 2017، خلال ولايته الأولى.
ثم رفع في بداية السنة الحاليّة سقف طموحاته، عندما بدأ بالتشديد، جدّياً، على رفع نسبة هذا الإنفاق إلى 5% من حجم الناتج المحلّي في كل دولة.

في بادئ الأمر، لم يتعامل كثيرون مع هذه المطالب بجديّة.
فالسقف الذي يطالب ترامب بفرضه يوازي 2.5 مرة نسبة الإنفاق الدفاعي التي يفرضها الحلف على الدول الأعضاء، منذ عام 2014، والتي لم تتجاوز 2%.
وبذلك، كان ترامب يُطالب فعلياً بتنفيذ زيادات سريعة، بل وربما خياليّة لبعض دول "ناتو"، في نسبة الإنفاق الدفاعي من الناتج المحلّي.

وبعيداً عن المُستهدفات المُعلنة من قبل الحلف، لم تتمكّن دول الاتحاد الأوروبي من رفع نسبة إنفاقها الدفاعي لمستويات تتخطى الـ 1.9% من الناتج المحلّي، خلال عام 2024.
واستطاعت دول الاتحاد تحقيق هذه النسبة بشق النفس، بعد أن رفعت قيمة هذا الإنفاق الدفاعي من 279 مليار يورو عام 2023، إلى 326 مليار يورو عام 2024.
ومع كل ذلك، تمكّن ترامب أخيراً من فرض مطالبه على دول "ناتو"، في آخر قمّة للحلف في لاهاي.

إذ قرّر زيادة نسبة الإنفاق الدفاعي المفروضة على دوله إلى 5% من الناتج المحلّي، وهو ما يطابق تماماً النسبة التي تحدّث عنها ترامب.
ورغم التحفّظات الهادئة، وأحياناً الصامتة، من قبل العديد من الدول الأعضاء، اضطرّ "ناتو" للسير منتظماً خلف مشيئة القيادة الأميركيّة.

وفوق ذلك، نال ترامب أيضاً إشادات بلغت حدّ التملّق المُبالغ به، من قبل الأمين العام للحلف مارك روته، على خلفيّة دور الرئيس الأميركي في فرض قرار رفع الإنفاق الدفاعي.
وهذا ما أوحى بأنّ ما جرى في القمّة كان إنجازاً يستحق الإشادة والثناء، وأنّ ترامب كان الأب الصارم الذي أجبر أبناءه على هذا القرار الموجع لكن المفيد، بحسب تشبيهات روته

بعيداً عن التعليقات المتملّقة، كان ثمّة ما يكفي من تحليلات اقتصاديّة رصينة، للدلالة على إشكاليّات هذا القرار.
فمن حيث المبدأ، وقبل البحث في واقعيّة القرار، تقوم طرائق التخطيط العسكريّ السليمة على تحديد الأهداف والمُخرجات المطلوبة من كل دولة على حدة، قبل أن تحدّد هذه الدولة الكلفة التي تحتاجها لتحقيق الخطط.
وهذا ما يتعارض جذرياً مع أسلوب ترامب، الذي يطالب بتحديد نسبة إنفاق ثابتة وشاملة (ومتساوية!) لكل دول حلف شمال الأطلسي، قبل الغوص في الأهداف المطلوبة من كل دولة.

قد تحتاج دول أوروبا الشرقيّة مثلاً إلى المزيد من الإنفاق في البنية التحتيّة البريّة، الكفيلة بنقل المعدات العسكريّة عبر أراضيها عند حالات الطوارئ.
وهذا ما يختلف عن حالة كندا، التي لا تتصل برياً بالدول الأوروبيّة، ولكنها تملك تحديات دفاعيّة بحريّة خاصّة في منطقة القطب الشمالي.
وهكذا، تختلف المهام والتحديات العسكريّة في كل دولة، ومعها تختلف طبيعة النفقات، ما يطرح تساؤلات حول جدوى فرض نسبة إنفاق ثابتة - بل وعبثيّة - لكل دول الحلف.

إلى جانب هذه الإشكاليّة، ثمّة تساؤلات حول قدرة دول حلف شمال الأطلسي على الامتثال لهذا الهدف، وحول تداعيات الخطوة.
فخلال العام 2024، عانت 12 دولة في الاتحاد الأوروبي، من أصل 27، من ارتفاع الدين العام إلى مستويات تتجاوز السقف الأقصى المسموح به من قبل الاتحاد (والمحدّد عند 60%).
في بعض الحالات، ارتفعت هذه النسبة إلى مستويات مقلقة، مثل إيطاليا (135%) وفرنسا (113%) وبلجيكا (104.7%).
وبينما يطلب الاتحاد من أعضائه عدم تجاوز نسبة العجز في الميزانيّة العامّة الـ 3% من الناتج المحلّي، لم تتمكّن 12 دولة في الاتحاد من تحقيق هذا الهدف عام 2024.

وهنا أيضاً ارتفعت النسب إلى مستويات مقلقة، كحال فرنسا (5.8%)، ورومانيا (9.3%). ببساطة، لا يبدو من الواقعي تحقيق زيادات كبيرة في نسب الإنفاق الدفاعي في الكثير من الدول الأوروبيّة، إلّا إذا جاء ذلك على حساب الإنفاق الاجتماعي ومتطلبات البنية التحتيّة.
وهذا ما سيؤدّي إلى تفاقم الخضّات السياسيّة والاجتماعيّة داخل الدول الأوروبيّة، بما يشكّل بيئة خصبة لتنامي التيّارات الشعبويّة اليمينيّة المتطرّفة.

بل ثمّة من طرح أسئلة حول الحاجة إلى هذه الزيادة أصلاً. فقيمة الإنفاق الدفاعي الأوروبي السنوي مثلاً، تتجاوز ثلاثة أضعاف مثيله في روسيا، الخصم الأساسي للحلف.
وإنفاق الدول الأوروبيّة على التسلّح منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، تجاوز عشرة أضعاف مثيله في روسيا.
وبخلاف الولايات المتحدة، المنشغلة في عدّة جبهات حول العالم، لا يملك الاتحاد الأوروبي خصماً عسكرياً مشتركاً ورئيسياً باستثناء روسيا.
رغم كل هذه الحجج، تمكّن ترامب من فرض فكرته على دول حلف شمال الأطلسي.

وفعل ذلك بابتزاز الدول الأوروبيّة صراحة، عبر التلويح بإمكانيّة امتناع بلاده عن الدفاع عن شركائها في أوروبا.
وهذا ما يطعن بركيزة "ناتو" الأولى والأهم، أي الغطاء الدفاعي الأميركي.
في الواقع، هناك حسابات تجاريّة واقتصاديّة تقف خلف حماسة ترامب، لزيادة الإنفاق الدفاعي في دول "ناتو".
وعلى نحوٍ أدق، يدرك ترامب أنّ المستفيد الأوّل من زيادة الإنفاق العسكري سيكون أسواق السلاح العالميّة، التي تهيمن الشركات الأميركيّة على سلاسل توريدها بشكلٍ واضح.
يبلغ الناتج المحلّي الإجمالي لدول "ناتو" حوالي 50 تريليون دولار، ما يعني أنّ قرار الحلف الأخير سيرفع -في حال الالتزام به- النفقات الدفاعيّة الإجماليّة للحلف إلى أكثر من 2.5 تربليون دولار سنوياً.

وهذا ما يزيد بأشواط عن حجم الإنفاق الدفاعي الحالي، الذي قارب 1.5 ترليون دولار خلال عام 2024.
معظم هذا الإنفاق الدفاعي الإضافي، سيصب في جيب الشركات الأميركيّة، التي تسيطر على أكثر من نصف مشتريات دول الحلف من الأسلحة.
مع الإشارة إلى أنّ مشتريات الدول الأوروبيّة من شركات الأسلحة الأميركيّة ارتفعت بنسبة 155% خلال الفترة الممتدة بين 2020 و2024، مقارنة بالفترة الممتدة بين 2015 و2019، وذلك بفعل زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي خلال السنوات الخمس الماضية.

ومن المتوقّع أن تزيد أرباح الشركات الأميركيّة بشكلٍ إضافي، إذا ارتفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي، بحسب قرار "ناتو" الأخير.
وتجدر الإشارة إلى أنّ العديد من دول حلف شمال الأطلسي، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تملك صناعات ثقيلة ومتقدّمة للسلاح، بما يشمل حتّى إنتاج الدبّابات والبوارج والطائرات المُقاتلة.

لكن الشركات الأميركيّة تستفيد أيضاً من هذه الصناعات، من خلال دورها في توريد مكوّنات هذه الأسلحة، التي يتم إنتاجها في أوروبا.
باختصار، ثمّة سلاسل توريد وتصنيع متشابكة عبر دول "ناتو"، لصناعات الأسلحة الثقيلة، والشركات الأميركيّة تملك موقعاً متقدماً في السيطرة على هذه السلاسل.
أخيراً، يفرض حلف شمال الأطلسي معايير صارمة على الدول الأعضاء، بالنسبة لنوعيّة الأنظمة والأسلحة، التي يتم اعتمادها في كل دولة.

وهذا الواقع يصب في مصلحة الشركات الأميركيّة أيضاً، إذ إنّ هذه المعايير تستبعد تلقائياً منافسين قادرين على تقديم الأسلحة بأسعار أقل، كحال الشركات الصينيّة مثلاً.
ومجدداً، تختلط هنا الحسابات السياسيّة والدفاعيّة مع المصالح التجاريّة والاقتصاديّة.