في أرض تُدرس في جامعاتها أن الفراعنة هم أول من أرسى دعائم القضاء، يجد المحامون أنفسهم اليوم محاصرين في مشهد يكشف انهيار استقلال السلطة القضائية، وسط تضييق ممنهج على الحق في الدفاع، ومحاكمات تفتقر لأبسط ضمانات العدالة.
تكرّست هذه الممارسات في قضايا بالغة الحساسية تمس السيادة الوطنية والفساد على أعلى المستويات، في وقت يتهم فيه حقوقيون النظام الحاكم بتحويل القضاء إلى ذراع سياسية وأمنية لقمع المعارضين وتصفية الخصوم.
قضيتان مفصليتان: "تيران وصنافير" وشهادات الوزير المزورة
في مقدمة القضايا التي تعكس مأزق العدالة المصرية، تبرز قضية السيادة على جزيرتي تيران وصنافير، التي أثارت جدلاً واسعاً منذ توقيع اتفاقية التنازل عنهما لصالح السعودية.
فقد تقدم المحامي علي أيوب ومعه 57 محامياً آخرين بطعن قضائي ضد الاتفاقية، مطالبين بإلغائها لمخالفتها الدستور وتهديدها للأمن القومي.
غير أن المفاجأة كانت في جلسة المحكمة الأخيرة، حين مُنعت هيئة الدفاع من الاطلاع على تقرير هيئة المفوضين، الذي يُعد مستنداً أساسياً في بناء الحكم القضائي، بل تم رفض تصوير التقرير شفهياً، بزعم أن ذلك جاء "بناء على تعليمات رئيس الدائرة"، في تصرف وصفه محامون بأنه تجريف لحق الدفاع وضرب لشفافية القضاء في مقتل.
أما القضية الثانية، فتتعلق بتزوير مزعوم لشهادات وزير التربية والتعليم الحالي محمد عبد اللطيف، حيث رفع المحامي مجدي حمدان دعوى لعزله، بعد أن كشفت تحقيقات أولية أن شهاداته العليا صادرة عن جامعة وهمية، ورغم خطورة الادعاءات، حُجزت القضية للحكم دون إتاحة الفرصة للدفاع للاطلاع على تقرير المفوضين أو تقديم المستندات الداعمة للتزوير، مما دفع المحامي حمدان لوصف الإجراءات بأنها "نسف لشرعية أي حكم يصدر عن المحكمة".
فساد النيابة.. ابتزاز الأسر وسوق سوداء للعدالة
ما يحدث داخل قاعات المحاكم ليس سوى جزء من صورة أكثر سوداوية تتكشّف في مكاتب النيابات، حيث أظهرت تقارير حقوقية فضيحة فساد موثقة داخل مكتب المحامي العام لمحافظة الشرقية.
وبحسب ما كشفت عنه "الشبكة المصرية لحقوق الإنسان"، فقد تحوّلت عملية نظر استئنافات الحبس إلى وسيلة للابتزاز، بعد تجميد غير معلن لإجراءات الاستئناف من قبل رئيس النيابة، ليتم السماح بتقديمها فقط مقابل رشاوى مالية تُدفع لبعض الموظفين.
وبلغت قيمة هذه الرشاوى عشرات الآلاف من الجنيهات في بعض الحالات، وتم توقيع الاستئنافات من جهات غير مختصة، ما يشكل وفق الحقوقيين جرائم واضحة من التزوير واستغلال النفوذ والابتزاز.
واعتبر الحقوقي خالد سليم أن هذه الوقائع تُمثل "إعداماً للعدالة"، وتحوّل الحبس الاحتياطي من أداة قانونية استثنائية إلى سلاح للقمع ومصدر للربح غير المشروع.
قضاء مُختطف.. تعيينات أمنية وتشريع مخصخص للسلطة
تُجمع تقارير حقوقية محلية ودولية على أن ما يجري ليس مجرد تجاوزات فردية، بل نتيجة هيكلة ممنهجة للمنظومة القضائية منذ انقلاب يوليو 2013.
فالتعديلات القانونية المتلاحقة، منحت رئيس الجمهورية سلطات شبه مطلقة في تعيين رؤساء الهيئات القضائية والنائب العام، ما ألغى فعلياً مبدأ الفصل بين السلطات.
وأكدت شهادات متطابقة لمحامين وقضاة سابقين أن جهاز الأمن الوطني بات المتحكم الفعلي في مسارات التعيين والترقية داخل السلطة القضائية، وهو ما عبّر عنه بوضوح المحامي والبرلماني السابق ممدوح إسماعيل بقوله: "القضاء في مصر لم يعد مستقلاً، إنه يُنفّذ أوامر الحاكم، وليس نصوص الدستور أو القانون، لقد بات قضاة اليوم يطبّقون إرادة السيسي لا قواعد العدالة".
اغتيال مفاهيم المحاكمة العادلة
الانتهاكات القضائية التي تسود المشهد المصري اليوم لا تمس المحامين وحدهم، بل تهدد جوهر العدالة نفسها.
فقد بات منع المحامين من الاطلاع على تقارير هيئة المفوضين وتقديم مستنداتهم حقاً مهدوراً، وتحولّت المحاكم إلى ساحات لتصفية الحسابات السياسية والأمنية.
وحذّر أحد المحامين المشاركين في طعن "تيران وصنافير" من أن ما جرى يمثل "تجريداً للدفاع من أدواته، وتفريغاً للمحاكمة من معناها"، مضيفاً أن "أي حكم يخرج من محكمة بهذه المعايير هو حكم سياسي لا قانوني، وفاقد للشرعية القانونية والدستورية".
السيسي والعدالة.. علاقة عدائية ممنهجة
منذ صعود عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، أصبح واضحاً أن استقلال القضاء ليس أولوية، بل ربما هو خصم يجب إقصاؤه من المعادلة، وخلال عقد من الزمن، تحوّلت المحاكم من أماكن يفترض أن يحتمي فيها المواطن، إلى أدوات قمعية بيد النظام، تستخدم لتخويف المعارضة وملاحقة الناشطين، وتمرير الصفقات السياسية والاقتصادية، كما حدث في تنازل الدولة عن أرض مصرية ذات سيادة.