في مشهد تكرر كثيرًا في عهد عبد الفتاح السيسي، أقدمت سلطات الانقلاب خلال الأشهر الماضية على تنفيذ عملية إخلاء قسري لسكان منطقة "الريسة" شرق مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء، وذلك بدعوى "توسعة الميناء البحري" وإعادة تخطيط المدينة ضمن "رؤية الدولة" – وهي الرؤية التي باتت تثير غضب الأهالي بدلًا من طمأنتهم.

الإخلاء بدأ فعليًا في يناير 2024، حين داهمت قوات الأمن منازل المواطنين، وبدأت عمليات الهدم بدون تعويض عادل أو توفير سكن بديل مناسب.

ووفقًا لشهادات أهالي من المنطقة وثقتها منظمات حقوقية، فإن الإنذارات بالإخلاء كانت شفهية في كثير من الحالات، دون سند قانوني أو أوامر قضائية واضحة.

 

موقع استراتيجي ومطمع للمستثمرين

منطقة "الريسة" تقع على ساحل البحر المتوسط، وتُعد البوابة الشرقية لمدينة العريش، كما تبعد أقل من 2 كيلومتر عن ميناء العريش البحري، الذي تم الإعلان عن خطط لتوسعته منذ عام 2019 ضمن "خطة الدولة لتنمية سيناء".

لكن المفارقة أن هذه التوسعة وفقًا لتقارير وتسريبات صحفية لا تهدف لتطوير الميناء لصالح النشاط المحلي أو الصيادين، بل تأتي في إطار "صفقة استثمارية" مع مستثمر خليجي يُعتقد أنه من دولة الإمارات، ينوي إقامة منطقة لوجستية وسياحية في الموقع بعد إخلائه.

 

استثمار على أنقاض البشر

في مارس 2025، نشرت مواقع إعلامية اقتصادية مثل "المال" و"البورصة" تقارير عن مفاوضات تجريها الحكومة المصرية مع شركة إماراتية ضخمة، تعمل في مجالات الموانئ واللوجستيات، لإدارة وتطوير ميناء العريش وتحويل المناطق المحيطة به إلى "منطقة اقتصادية حرة".

وبينما تتحدث الحكومة عن "خلق فرص عمل واستثمارات"، يرى ناشطون ومحللون أن ما يحدث ليس إلا امتدادًا لسياسة السيسي في بيع أصول الدولة وإخلاء السكان لصالح رجال الأعمال والمستثمرين الخليجيين، دون اعتبار لحقوق المواطنين أو نسيج المجتمع.

 

الأهالي يُهجرون دون بدائل حقيقية

أهالي "الريسة" لم يُمنحوا سوى الفتات، وفقًا لمصادر محلية، فإن غالبية السكان الذين أُجبروا على ترك منازلهم لم يحصلوا سوى على "تعويضات هزيلة"، تتراوح بين 100 إلى 150 ألف جنيه، في حين تبلغ قيمة الأراضي المطلة على البحر أضعاف هذا الرقم في السوق الحرة.

وقد قال أحد سكان المنطقة في تسجيل تم تداوله على وسائل التواصل:

"أجبرونا نخرج وهدّوا بيوتنا. قالوا توسعة ميناء، بس بعدين عرفنا إن في شركة خليجية جاية تاخد الأرض… الأرض اللي عشنا فيها سنين."

https://youtu.be/FqKLKA-7JCA

 

تفاصيل الإخلاء وآلية التنفيذ

تم تنفيذ الإخلاء عبر قرارات إدارية ورئاسية تتيح للحكومة الاستيلاء على الأراضي بعد إخلاء السكان، مع وعود ببناء وحدات سكنية بديلة في مناطق أخرى.

وفق بيانات محافظة شمال سيناء، تم بناء 13 عمارة سكنية لصالح المتضررين، منها 7 عمارات في الريسة و6 في الضاحية، بمساحات 100 متر مربع للوحدة السكنية، لكن هذه التعويضات لم تكن كافية لتغطية خسائر الأهالي ومطالبهم.

العملية شملت تهجير آلاف السكان الذين اضطروا لمغادرة منازلهم تحت ضغط السلطات الأمنية، مما أدى إلى حالة من التوتر والاحتقان الشعبي في العريش، وسط اتهامات للحكومة بتجاهل حقوق السكان وفرض سياسات قسرية بدلاً من الحوار والتعويض العادل.

 

صمت رسمي وتعتيم إعلامي

اللافت أن إعلام الانقلاب الرسمي والخاص في مصر تجاهل القصة تمامًا، وكأن الأمر لم يحدث، وحتى اللحظة، لم يصدر بيان رسمي واضح من وزارة النقل أو هيئة الموانئ المصرية حول حقيقة الصفقة أو مصير الأهالي الذين تم تهجيرهم.

لكن تصريحات متفرقة من مسؤولي الهيئة الاقتصادية لقناة السويس المشرفة على تطوير موانئ سيناء تحدثت عن "شراكات استراتيجية مع كيانات خليجية لتطوير ميناء العريش"، ما يعزز صحة المعلومات المتداولة.

 

نهج مكرر.. من الوراق إلى سيناء

ما حدث في الريسة بالعريش ليس استثناءً، بل امتداد لنمط واضح في سلوك النظام الانقلابي، الذي لا يتردد في إخلاء السكان لصالح مشاريع استثمارية كما حدث في جزيرة الوراق، ومثلث ماسبيرو، وحوض الدرس في السويس، وأراضي نزلة السمان.

تحت شعارات "التطوير"، يتم هدم المجتمعات وطمس هويتها، وتُمنح الأراضي في النهاية إلى شركات أو رجال أعمال مقربين من النظام أو من الداعمين الإقليميين، خصوصًا من دول الخليج التي ضخّت المليارات في النظام منذ انقلاب 2013.

 

أين البرلمان؟

رغم خطورة ما يحدث، لا وجود لأي رقابة برلمانية حقيقية، البرلمان -الذي تهيمن عليه الأجهزة الأمنية- لم يناقش الأمر، ولم تُطرح أي مساءلات لوزير النقل أو المحافظ.

في المقابل، تواصل سلطات الانقلاب تجريف الأرض وتهميش المواطن، في تناقض صارخ مع ما يردده السيسي من شعارات حول "العدالة الاجتماعية" و"حقوق الإنسان".

ويقول مراقبون إن استمرار هذه السياسات قد يؤدي إلى موجات جديدة من الغضب الشعبي، خصوصًا في مناطق مثل سيناء التي عانت طويلًا من التهميش الأمني والعسكري والآن تواجه التهجير الاقتصادي.

 

الأرض لمن يدفع أكثر

في جمهورية السيسي، لم تعد الأرض ملكًا لأهلها، بل لمن يدفع أكثر، تُجَنَّب أراضي "الريسة" ويُطرد سكانها لصالح مجهول قادم من الخليج، فيما يقف المواطن العادي أعزل أمام قرارات تهدم بيته وتسرق مستقبله، وإلى أن تتغير المعادلة، يبدو أن سيناريوهات التهجير ستظل تتكرر، والمواطن هو دائمًا الضحية الأولى.