أعلنت شركة مصر للطيران وهي الناقل الوطني المملوك للدولة يوم 20 يونيو 2025، عن إلغاء مؤقت لعدد من رحلاتها المنتظمة إلى أربع عواصم عربية هي: بغداد، دمشق، الخرطوم، وطرابلس، وذلك لأسباب "تشغيلية وأمنية"، على حد تعبير الشركة، ورغم محاولة السلطات التقليل من أهمية القرار، إلا أن محللين اعتبروا الخطوة مؤشراً على تدهور اقتصادي عميق وفشل دبلوماسي فادح يضرب صميم الدولة المصرية.
أولاً: خلفية القرار ومضمونه
أوضحت مصر للطيران في بيان رسمي أن الرحلات إلى المدن الأربع ستُعلَّق حتى إشعار آخر، مشيرة إلى أن "القرار يخضع لمراجعة دورية بحسب تطورات الأوضاع التشغيلية"، ولم تقدم الشركة تفاصيل كافية عن طبيعة تلك "الصعوبات"، ما فتح الباب أمام التكهنات حول أبعاد القرار، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها مصر.
وتُعد هذه المدن ذات طابع سياسي حساس:
- بغداد ودمشق: تمثلان نقاطًا لمحور "الممانعة" الذي تتذبذب علاقات النظام المصري معه.
- طرابلس: تعاني من صراع سياسي بين حكومتين، أحدهما مدعومة من القاهرة.
- الخرطوم: في ظل الحرب الأهلية المشتعلة، ترتبط مصر بأدوار معقدة في الملف السوداني.
ثانياً: الأسباب المحتملة
يرجع إلغاء الرحلات إلى المخاوف الأمنية التي أثارتها الاشتباكات بين إسرائيل وإيران، والتي شملت هجمات جوية متبادلة وردود فعل عسكرية متسارعة، مما أثر على الحركة الجوية في الشرق الأوسط.
كما أن التوترات الأمنية دفعت شركات طيران أخرى مثل لوفتهانزا، إيجيان إيرلاينز، تركيش إيرلاينز، وفلاي دبي إلى تعليق رحلاتها إلى بعض هذه العواصم لفترات متفاوتة تمتد حتى نهاية يونيو 2025 أو أكثر.
رغم الخطاب الرسمي، يرى اقتصاديون أن السبب الحقيقي يعود إلى الأزمة النقدية وشح الدولار، مما أثر على قدرة مصر للطيران في تغطية تكاليف التشغيل بالعملة الصعبة، خصوصاً في وجه ارتفاع أسعار الوقود عالمياً.
بحسب بيانات البنك المركزي المصري (يونيو 2025)، بلغ عجز الميزان التجاري نحو 47 مليار دولار، وسط تراجع حاد في احتياطي النقد الأجنبي الذي لم يتجاوز 23.1 مليار دولار، مقابل 45 مليار في بداية 2020.
وهو ما يؤكده الخبير الاقتصادي د. محمود وهبة قائلاً: "مصر للطيران شركة خاسرة منذ سنوات، وتضطر لإلغاء رحلات ليست لعدم الجدوى فقط، بل لعدم القدرة على تأمين الوقود والصيانة والدفع للجهات الدولية".
ويدعم هذا التوجه تقرير لوكالة "بلومبيرغ" في مايو الماضي، أشار إلى أن شركات طيران المنطقة تتفوق على مصر للطيران بكفاءة التشغيل والربحية، خاصة بعد رفع الدعم عن الوقود محلياً.
ثالثاً: التداعيات الاقتصادية والسياحية
إلغاء هذه الرحلات يمثل ضربة مباشرة لعائدات الشركة التي تجاوزت 1.5 مليار دولار سنويًا في أفضل حالاتها، بينما تشير تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات إلى أن خسائر الشركة في عام 2023 فقط بلغت 3.8 مليار جنيه مصري، في ظل سوء الإدارة وتضخم النفقات التشغيلية.
ويقول د. نادر فرجاني، الخبير في التنمية، إن "النظام لا يرى النقل الجوي كأولوية وطنية بل كأداة بروباغندا"، مضيفًا أن "مصر للطيران تُدار بعقلية أمنية لا اقتصادية، في وقت تتراجع فيه المنافسة أمام شركات خليجية وتركية تمتلك كفاءة وخدمة متميزة".
من جهة أخرى، القطاع السياحي سيتأثر بشكل غير مباشر، إذ أن ضعف التواصل الجوي مع بعض العواصم العربية يحد من حركة السياحة العلاجية والتعليمية والدينية، والتي تمثل نسبة لا يستهان بها من الوافدين إلى مصر.
رابعاً: الدلالات السياسية والدبلوماسية
أثار إلغاء الرحلات أيضًا تساؤلات سياسية، خاصة أن ثلاث من العواصم الأربعة (دمشق، طرابلس، الخرطوم) تشهد اضطرابات أمنية حادة، وهناك اتهامات بتورط مصر في دعم أحد أطراف الصراع، ما يجعل إلغاء الرحلات مخرجًا دبلوماسيًا لتقليل الحرج، دون إعلان رسمي بتغيير الموقف.
وبحسب تصريح من السفير السابق معصوم مرزوق، فإن "هذه الإلغاءات تكشف فشل السيسي في بناء سياسة خارجية متوازنة"، مشيرًا إلى أن مصر "فقدت الثقل العربي التقليدي لصالح قوى إقليمية كالإمارات وتركيا".
أشار تقرير لمعهد كارنيغي للشرق الأوسط (أبريل 2025) إلى أن "الضغوط الاقتصادية تفرض على مصر إعادة النظر في شبكة علاقاتها الخارجية من منظور الكلفة والعائد، وهو ما يتجلى في التخلي عن التزامات النقل الجوي لبعض الدول".
فيما يؤكد د. عمرو الشوبكي، الباحث في مركز الأهرام، أن "القرار لا يمكن فصله عن فشل إدارة الدولة اقتصاديًا، فمصر اليوم غير قادرة على توفير أبسط مقومات الخدمات العابرة للحدود".
ماذا يعني هذا القرار في مجمله؟
إلغاء الرحلات لا يعكس فقط قرارًا فنيًا لشركة طيران، بل هي أزمة دولة تعاني انهيارًا اقتصاديًا واختناقًا سياسيًا وعزلة إقليمية متزايدة، ويعني أيضًا أن حكومة الانقلاب المصرية، بقيادة عبد الفتاح السيسي، لم تعد قادرة على الحفاظ على الحد الأدنى من "الرمزية السيادية" في إدارة شركاتها الوطنية ومكانتها الإقليمية، وبينما تحاول السلطة تبرير القرار بأسباب "تشغيلية مؤقتة"، يرى الاقتصاديون أن الخلل ليس في الطائرات، بل في النهج السياسي والاقتصادي الكامل للنظام.