تمثل المنشآت النووية والنفطية في الشرق الأوسط مراكز حيوية ليست فقط في الاقتصاد، بل في الأمن والسياسة أيضًا، وتبرز منشآت مثل حقل ليفياثان الإسرائيلي، ومحطات الإسالة في إدكو ودمياط بمصر، والمفاعل النووي في ديمونة، كأمثلة على بنية تحتية حساسة تتحكم في مستقبل الطاقة للمنطقة.
في ظل هذا الواقع، أعلنت مصادر مصرية في 13 يونيو 2025 عن خفض إسرائيل لضخ الغاز الطبيعي إلى مصر، بسبب الإغلاق المؤقت لحقل ليفياثان البحري، وهو ما قد يؤدي إلى أزمة طاقة محدودة أو ارتفاع في أسعار الوقود خلال الأسابيع المقبلة.
ليفياثان.. قلب صادرات الغاز الإسرائيلي
بدأ تشغيل حقل ليفياثان عام 2019، ويُعد أحد أكبر حقول الغاز في شرق البحر المتوسط، باحتياطيات تُقدَّر بأكثر من 22 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، يبعد الحقل حوالي 130 كيلومترًا عن شواطئ حيفا، وتديره شركة "نيو ميد إنرجي" بالشراكة مع "شيفرون" الأميركية.
منذ توقيع اتفاقية الغاز مع مصر عام 2020، أصبح الحقل يضخ قرابة 4.5 مليار متر مكعب سنويًا إلى مصر، تُستخدم جزئيًا للاستهلاك المحلي، وجزئيًا لإعادة التصدير عبر محطات الإسالة المصرية في إدكو ودمياط.
الإغلاق الذي تم يوم الخميس جاء بحسب بيان وزارة الطاقة الإسرائيلية "لأسباب أمنية مرتبطة بتقييمات استخباراتية"، في ظل التوتر المستمر مع حزب الله في الشمال، وتزايد المخاوف من استهداف البنية التحتية للطاقة.
التداعيات على مصر: أزمة محتملة في ذروة الصيف
تُعد مصر المستورد الأساسي للغاز الإسرائيلي منذ عام 2020، بعد انخفاض إنتاجها المحلي من حقل ظهر بنسبة 11% وفقًا لبيانات وزارة البترول المصرية في أبريل 2025، ومع وصول درجات الحرارة لمستويات قياسية هذا الصيف، يعتمد تشغيل محطات الكهرباء بنسبة تصل إلى 90% على الغاز الطبيعي.
وأشارت مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" في تقرير حديث أن أي اضطراب في تدفقات الغاز الإسرائيلي "قد يؤدي إلى انقطاع الكهرباء في مناطق صناعية خلال فترات الذروة، ويدفع الحكومة إلى العودة إلى استخدام المازوت الأعلى تكلفة".
تصريحات مصدر بوزارة الكهرباء نقلتها وكالة "رويترز" أكدت أن "الوضع حرج في حال طال أمد الإغلاق"، بينما أشار خبير الطاقة الدكتور محمد سعد الدين إلى أن "مصر تعيد تصدير أكثر من 60% من الغاز الإسرائيلي المسال، مما يعني تأثر عائدات التصدير بشكل مباشر".
هل يتحول الغاز إلى ورقة ضغط؟
يرى مراقبون أن قرار الإغلاق المؤقت لحقل ليفياثان لم يكن فقط لأسباب أمنية، بل يحمل أبعادًا سياسية، فقد أشار الجنرال احتياط عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في هرتسيليا، إلى أن "الاعتماد المصري على الغاز الإسرائيلي يمنح تل أبيب نفوذًا اقتصادياً صامتاً"، لكنه نبه إلى أن "استهداف الحقل قد يضعف هذا النفوذ إذا تكرر أو استمر".
في المقابل، تُحذر جهات في مصر من الاعتماد المفرط على مصدر خارجي في مجال حساس مثل الطاقة، وكتب الباحث في شؤون الطاقة هاني حلمي في مركز الأهرام للدراسات السياسية أن "الأزمة الحالية تُبرز ضعف الاستراتيجية المصرية في تنويع مصادر الطاقة"، مشيرًا إلى "تراجع الاستثمارات في الطاقة المتجددة خلال عام 2024 بنسبة 37%".
محطات الإسالة.. خسائر محتملة وتراجع التصدير
محطتا إدكو ودمياط تعدان من الأصول الاستراتيجية لمصر، حيث تبلغ طاقتهما الإجمالية أكثر من 12مليون طن سنويًا، وتلعبان دورًا محوريًا في تحويل الغاز الإسرائيلي إلى غاز مسال يُعاد تصديره إلى أوروبا.
لكن مع انخفاض كميات الغاز، بدأت بعض التقديرات تشير إلى انخفاض عائدات التصدير بنحو 200 مليون دولار شهريًا إذا استمر الإغلاق حتى نهاية يوليو. ووفقًا لمؤسسة "ستاندرد آند بورز"، فإن عائدات تصدير الغاز المسال في 2024 شكلت نحو 4.1 مليار دولار لمصر.
وقال المهندس شريف الدسوقي، الرئيس التنفيذي السابق لشركة "إيجاس"، في تصريح صحفي إن "انخفاض التصدير يضع ضغطًا على الميزان التجاري، في وقت تعاني فيه مصر من نقص العملة الصعبة".
ماذا بعد؟
تعيد أزمة خفض ضخ الغاز تسليط الضوء على هشاشة البنية التحتية للطاقة في الشرق الأوسط، وتداخل العوامل الأمنية بالاقتصادية، وتُطرح تساؤلات حول ما إذا كانت مصر بحاجة إلى تسريع مشاريع بديلة مثل طاقة الرياح في خليج السويس، ومزارع الطاقة الشمسية في أسوان، لتعويض التبعية المتزايدة للغاز المستورد.
وفي الوقت نفسه، دعا النائب البرلماني ضياء الدين داوود إلى "إعادة النظر في الاتفاقيات مع إسرائيل، ومراجعة مدى توافقها مع الأمن القومي"، بينما أشار تقرير صادر عن مركز كارنيغي في يونيو 2025 إلى أن "المبالغة في الاعتماد على مورد خارجي في ظل هشاشة الاستقرار الإقليمي يعرّض الاقتصاد المصري لصدمات متكررة".
الأزمة الحالية ليست مجرد عطل فني في حقل بحري، بل مؤشر عميق على التداخل بين الطاقة والسياسة في منطقة مشتعلة، وعلى مصر أن تعيد تقييم استراتيجياتها الطاقية على ضوء هذه التطورات المتسارعة، كي لا تصبح رهينة لمعادلات خارج إرادتها.