في خطوة غير مسبوقة تكشف عن تحوّل جوهري في بنية الاقتصاد العسكري المصري، وقّع صندوق مصر السيادي وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة، اتفاقًا مع مكاتب استشارية محلية ودولية، لإعادة هيكلة وطرح خمس شركات مملوكة للجيش للبيع، من بينها "الوطنية للبترول"، "شيل أوت"، "صافي"، "سيلو فودز"، و"الوطنية للطرق".
بوسطن الأمريكية.. الشريك الاستراتيجي الذي يعرف إسرائيل جيدًا
الاتفاق الذي أثار جدلًا واسعًا سياسيًا واقتصاديًا، منح شركة Boston Consulting Group (BCG) الأمريكية دور المستشار التجاري والاستراتيجي لعملية الطرح، وهي الشركة التي تعود جذورها لعام 1963، وتضم أكثر من 100 مكتب حول العالم، وتُعرف بعلاقاتها العميقة مع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، إضافة إلى وجودها النشط في إسرائيل منذ 2010.
ويذكر أن أول وظيفة شغلها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو كانت في "بوسطن كونسلتينغ" كمستشار اقتصادي لمدة عامين، وهو ما يثير علامات استفهام حول طبيعة تبادل المعلومات الاستراتيجية بين المجموعة والدولة العبرية.
الضغوط التي فجّرت السرية.. صندوق النقد وراء القرار
التحول الجذري في موقف حكومة عبدالفتاح السيسي من خصخصة شركات الجيش يأتي استجابة لضغوط مباشرة من صندوق النقد الدولي، الذي سبق أن أعلن في أغسطس 2024 عن "عدم التزام مصر بتنفيذ الشروط المتفق عليها"، وفي مقدمتها تخارج الدولة من الاقتصاد، بما يشمل الشركات التابعة للجيش، كشرط أساسي لصرف شرائح قرض بقيمة 8 مليارات دولار.
ورغم الإعلان عن خطة مماثلة منذ 2020، لم يُطرح فعليًا سوى بعض الشركات المدنية المملوكة للدولة، في حين ظلت شركات الجيش بعيدة عن الشفافية أو الطرح، لأسباب تتعلق بالسيادة والمعلومات الحساسة.
حسابات الجيش.. من الظل إلى النور؟
بحسب محللين، فإن دخول شركة "بوسطن" على خط إعادة الهيكلة يمثل لحظة كسر الصمت حول الملفات المالية والعسكرية التي طالما ظلّت بعيدة عن أعين الأجهزة الرقابية. إذ لم تخضع شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية مطلقًا لمراقبة الجهاز المركزي للمحاسبات أو البرلمان.
لكن الاتفاق الجديد يشمل إعداد حسابات هذه الشركات وفقًا لمعايير الإفصاح والشفافية المعتمدة في سوق المال، تمهيدًا لطرحها في البورصة، ما يعني انكشاف تفاصيل التمويل، وسلاسل التوريد، وأوجه الإنفاق لأول مرة.
ويقول الباحث يزيد صايغ، الزميل في مركز "كارنيغي" للشرق الأوسط، إن الاتفاق "سيمثل تحولًا غير مسبوق في شفافية اقتصاد الجيش المصري، وسيفتح المجال أمام كشف مصادر تمويل طالما كانت محاطة بالسرية".
من غزة إلى القاهرة.. سجل بوسطن المُلطّخ
تفاقمت الانتقادات الموجهة إلى "بوسطن كونسلتينغ" بعد تورطها في إدارة عمليات توزيع المساعدات في قطاع غزة ضمن اتفاق مع "مؤسسة غزة الإنسانية"، إذ تولت الشركة الأميركية تصميم نموذج التوزيع والإشراف على التنفيذ في أكتوبر 2024.
غير أن البرنامج، الذي بدأ تطبيقه فعليًا في مايو 2025، تسبب في تكدّس آلاف المدنيين عند نقاط التوزيع، ما أدى إلى حالات اختناق ومشاهد مأساوية أسفرت عن سقوط شهداء، وفق تقارير محلية ودولية. وعلى إثر الكارثة، سحبت الشركة طاقمها من غزة بعد أقل من أسبوع، وسط اتهامات بسوء التخطيط وانعدام المعرفة بطبيعة الأرض والسكان.