د. عطية عدلان

أكاديمي مصري- أستاذ الفقه الإسلامي

 

لماذا نُكَبِّرُ في العيدين؟ ولماذا في عيد الأضحى على وجه الخصوص تُفسَح للتكبير كلُّ هذه المساحة الواسعة؟ ما سبب التكبير وما مغزاه؟ ثم ما قيمته بين الشعائر الإسلامية؟ وقبل ذلك كلّه: كيف وأين ومتى كان المنشأ؟ وأخيرًا ما الأثر الذي يخلفه التكبير في المسلمين؟ أسئلة لا يكبح جماحها انغماسُ المسلم في نشوة التكبير غيرَ مبالٍ إلّا بما يغمره من فرح وسرور، فهل لهذه الأسئلة أجوبة كافية شافية؟

 

من إبراهيم تبدأ المسيرة

كأنّ التواتر العمليّ هو الذي تصدّى لنقل هذه الظاهرة في المسلمين من جيل إلى جيل، ظاهرة التكبير في موضعين، الأول: الفرح بنصر الله، والثاني: الفرح بفضل الله، ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الفرح لم يُذكر في  كتاب الله في سياق الرضا والتحسين إلّا في موضعين، الأول: الفرح بنصر الله، والفرح بفضل الله، قال الله تعالى في سورة الروم: (وَيَوْمَئِذٍ ‌يَفْرَحُ ‌الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ) وقال سبحانه في سورة يونس: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ‌فَبِذلِكَ ‌فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، ولا يعني هذا – بالطبع – أنّ الفرح في غير هذين الموضعين مذموم، إنّما الفرح المذموم هو ما جاء متلبسًا بالبطر والأشر والخيلاء والزهو، لكنّ المقصود أنّ هذين الموضعين تحديدًا يكون فيهما أعظمُ الفرح، أو يكون فيهما الفرحُ الحقيقيُّ الذي يخلِف فلاحًا في الدارين.

ومن هنا يرجح ما روي أنّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عندما وقع الفداء على هذا النحو المبهر انخرطا في التكبير، ولا يبعد أن يكون هذا هو دأب الأنبياء والأولياء والحنفاء قبلهما، لكنْ لأنّهما أصل هذه الأمة المباركة وجدنا في أنفسنا تطاوعًا مع الفكرة القائلة بأنّهما أصل هذه الشعيرة المباركة، وما في ذلك من غضاضة، أليس الله تعالى قد قال لنا: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ‌فَاتَّبِعُوا ‌مِلَّةَ ‌إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؟، أوليس قد أمر رسوله بهذا الأمر الحاسم: (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ‌أَنِ ‌اتَّبِعْ ‌مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؟؛ وإذن فلْنُكَبِّرْ مثلما كبّر ولنفرح مثلما فرح بفضل الله (الإسلام).

 

عُمقٌ تشريعيّ وبُعدٌ تربويّ

على الرغم من أنّ السنة العملية المنقولة بالتواتر جيلًا عن جيل كافيةٌ رسوخ التشريع؛ فإنّ الجذر أبى إلّا أن ينغرس في النصّ القرآنيّ، فقد نصّ القرآن على التكبير فرحًا بفضل الله في موضعين، الأول: نعمة إتمام الصيام، قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا ‌الْعِدَّةَ ‌وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، الثاني: نعمة تمام النسك في الحج، قال تعالى: (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ‌عَلى ‌ما ‌هَداكُمْ ‌وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)، لذلك فإنّ التكبير في العيدين لم ينقطعْ ولن ينقطعَ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكنّنا بحاجة إلى أن نَلِينَ مع الخطاب القرآنيّ ونُسْلِسَ له القياد؛ ليأخذَنا إلى آفاق بعيدة محلِّقةٍ في سماوات المعاني السامية، نحن – إِذَنْ – فقراء إلى هداية الله وتوفيقه، فإذا هدانا الله لما فيه الفلاح فنحن به فرحون مغتبطون؛ بما يعني أنّنا في فلك عجيب ندور، مشدودين في دوراننا هذا بالله العليّ الكبير، فإذا كبّرنا كان تكبيرنا شاهدًا على الفقر وتعبيرًا عن الشكر، وبين الافتقار والامتنان يدور العبد في فلك العبودية مشدودًا إلى الواحد الديّان، وربما جاءت صيغة التكبير المركبة من مقطعين يختم أولهما بكلمة التوحيد ويختم الثاني بالحمد: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ربما جاءت الصيغة على هذا النحو ليقع الانسجام التام بين الشعيرة الظاهرة والشعور الباطن، فما أعظم الإسلام! وما أوثق وأعمق اتصاله بالنفس الإنسانية!

 

إنّه دَيْدَنُ المؤمنين

لكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ؛ فالتكبير يصير في حياة المسلمين مصدرًا دائمًا للطاقة الإيمانية، لكنّنا نغفل عن التفكير فيه لطول الإلف والاعتياد، مثلما نغفل عن أن الشمس التي هي مصدر الطاقة الحياتية في حياة الخلق بأسرهم، ألسنا نكبّر تكبيرة الإحرام التي لا دخول لنا إلى الحضرة الإلهية إلا بها، خمس مرات كلّ يوم على فرض أنّنا لم نصلّ إلا المكتوبات؟ ثمّ ألسنا نكبر مع كلّ انتقالة في الصلاة من ركن إلى ركن ومن ركعة إلى التي تليها؟ وإلى جانب ذلك: أليس التكبير يدوّي من المآذن في جنبات الأرض خمس مرات كلّ يوم؟ وإذن فهذا شأن كبير جدّ كبير، نعلم كم هو كبير إذا تأملنا المعنى، فالله أكبر من كلّ شيء، أكبر وأعظم وأجلّ من كلّ أمر، فلا يصحّ أن يكبر في قلوبنا ولا أن يعظم في نفوسنا غير شأن الله، فإذا وجبت الصلاة فالله أكبر من كلّ شيء يصرفنا عنها، وإذا تهيأنا للدخول فيها فالله أكبر من كلّ شيء يلهينا عنه فيها، وإذا انخرطنا فيها ليسلمنا كل ركن منها إلى الذي بعده فالله أكبر من أن يضنّ العبد أو يمنّ بهذا اللون من التعبد أو ذاك، وإذا خرجنا من الصلاة انطلقنا في حياتنا بهذه الروح التي تكبر الله إلى أن يقرع آذاننا تكبير جديد يدعونا إلى الوقوف من جديد بين يدي الحميد المجيد، انطلقنا بهذه الروح فلم ننتقص من قدر الله الكبير في قلوبنا باقتراف معصية أو التلبس بخطيئة، فإذا عُرضت علينا الفتن صاحت قلوبنا: الله أكبر؛ فلاذتْ بمَلَاذ وعاذَتْ بمعاذ، وفاز المؤمن فوزًا يستوجب التكبير.

 

تكبير القلوب قبل الألسنة

في ثلاثة مواضع من كتاب الله تعالى جاءت هذه العبارة (ما قدروا الله حقّ قدره)، في الزمر: (وَما قَدَرُوا ‌اللَّهَ ‌حَقَّ ‌قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)، وفي الحج: (ما قَدَرُوا ‌اللَّهَ ‌حَقَّ ‌قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وفي الأنعام: (وَما قَدَرُوا ‌اللَّهَ ‌حَقَّ ‌قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)، هذا لأنّهم لم يكبر في قلوبهم شأن الله؛ لذلك قال الله لرسوله في أول الأمر: (وربَّكَ فكبِّرْ)، بهذا الحصر والقصر، أي: لا يكبر في قلبك إلا شأن الله، فهلًا انطلقنا من هذه المنصة العظيمة؟