شهدت الحدود السودانية مع مصر وليبيا تطورًا خطيرًا، ففي 9 يونيو 2025، أعلنت مصادر ميدانية سودانية ودولية أن قوات الدعم السريع، بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بسطت سيطرتها على منطقة استراتيجية على المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر، وتشمل المنطقة نقاطًا قريبة من "جبل العوينات" و"واحة الكفرة"، المعروفة بأهميتها اللوجستية في طرق التهريب والهجرة غير النظامية، هذه السيطرة تعني تحولاً خطيرًا في موازين القوى الإقليمية، وتكشف هشاشة الموقف المصري، خاصة أن هذه التطورات لم تقابل بأي رد فعل جاد من جانب القاهرة.

رغم الأهمية الأمنية البالغة لهذه المنطقة، تجاهلت السلطات المصرية، حتى لحظة إعداد التقرير، إصدار أي بيان عسكري أو رئاسي يوضح الموقف الرسمي أو الإجراءات المتخذة، في خطوة تعكس استمرار سياسة التجاهل والتراخي التي اتسم بها نظام عبد الفتاح السيسي منذ بداية الأزمة السودانية في أبريل 2023.

 

إخفاقات متراكمة.. فشل نظام السيسي في الملف السوداني

منذ اندلاع الأزمة السودانية، تبنّى نظام السيسي سياسة قائمة على دعم العسكر في السودان والتدخل غير المباشر عبر تحالفات سياسية وعسكرية، إلا أن هذه السياسات أثبتت فشلها مرارًا.

فقد حاولت القاهرة مرارًا عرقلة العملية السياسية في السودان، ودفعت نحو تقاسم السلطة بين الجيش والقوى المدنية على غرار سيناريو 2019، لكنها فشلت في تحقيق اختراق حقيقي، بل ساهمت في تعقيد المشهد السياسي وزيادة الاستقطاب الداخلي.

ويؤكد مراقبون أن المبادرات المصرية غالبًا ما تأتي بعد تعثر حلفائها العسكريين في السودان، ما يعكس غياب الرؤية الاستراتيجية لدى نظام السيسي وانكشاف محدودية نفوذه الفعلي في الساحة السودانية.

 

فشل استخباراتي وعسكري.. أين الجيش المصري؟

الغياب التام لأي رد مصري على هذا الاختراق الحدودي يثير تساؤلات عميقة حول فاعلية المؤسسة العسكرية التي تتلقى أكبر مخصصات مالية من الموازنة العامة، فبحسب بيانات وزارة المالية المصرية، بلغ الإنفاق العسكري لعام 2024 نحو 7.8 مليار دولار، وهي أعلى ميزانية عسكرية في تاريخ مصر، لكن رغم هذا الإنفاق الضخم، لم يستطع النظام تأمين حدوده الجنوبية والغربية من الفصائل المسلحة والميليشيات المدعومة إقليميًا.

اللواء المتقاعد صفوت الزيات صرح في مقابلة تلفزيونية على قناة "الحوار" بتاريخ 10 يونيو 2025 قائلاً: "الوضع خطير للغاية، فلدينا فجوة استخباراتية وعسكرية على حدود تمتد لأكثر من 1,200 كيلومتر، وهي الآن مهددة من قبل ميليشيات غير نظامية مدعومة من قوى خارجية. أين الإنفاق العسكري؟ وأين الأولويات؟"

 

الإمارات وحفتر وحميدتي.. مثلث النفوذ على حساب مصر

تكشف التحليلات الجيوسياسية عن علاقات متشابكة بين قوات الدعم السريع، واللواء خليفة حفتر في ليبيا، ودولة الإمارات العربية المتحدة، فوفق تقرير صادر عن "معهد صوفان للدراسات الأمنية" في مايو 2025، تتلقى قوات حميدتي دعمًا لوجستيًا وتمويليًا مستمرًا من الإمارات، عبر مسارات إمداد تمر من شرق ليبيا، وبالتحديد من مناطق نفوذ حفتر، وتكشف تقارير أن الدعم السريع استفادت من خطوط إمداد عبر الأراضي الليبية، بترتيب مع حفتر، ما منحها قدرة أكبر على التحرك في المناطق الحدودية مع مصر وليبيا.

حفتر، الحليف التاريخي لأبو ظبي، سمح منذ أواخر 2023 بمرور معدات وأسلحة إلى الدعم السريع مقابل الحصول على دعم مالي وعسكري في الشرق الليبي، مما أدى إلى تشكّل ما يشبه "حلفًا غير رسمي" بين ثلاث جهات مسلحة تعمل خارج الأطر الرسمية للدول: الدعم السريع، حفتر، وشبكة مصالح إماراتية.

هذا التحالف غير المعلن يضع القاهرة في موقف حرج، إذ تجد نفسها أمام قوة عسكرية مدعومة من حلفاء إقليميين (الإمارات وحفتر) يتقاطعون في المصالح مع خصومها في السودان، ويعكس ذلك فشل السيسي في بناء شبكة تحالفات متماسكة أو حتى الحفاظ على أمنه الحدودي.

المفارقة أن القاهرة، التي يفترض أنها الأكثر تضررًا من هذا التحالف، لم تحرّك ساكنًا، بل استمرت في التنسيق مع أبوظبي دون مساءلة.

 

مؤشرات على الفشل

تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 9 ملايين سوداني نزحوا داخليًا أو لجأوا إلى الخارج منذ اندلاع الصراع في أبريل 2023، في حين تجاوز عدد القتلى 15 ألفًا بحسب تقديرات منظمات دولية حتى منتصف 2025.

ورغم الدعم السياسي واللوجستي الذي قدمته القاهرة للجيش السوداني، لم تنجح في منع تمدد قوات الدعم السريع أو احتواء الأزمة الإنسانية المتفاقمة.

كما أن فشل زيارة السيسي إلى الخرطوم في فبراير 2024، والتي كان يُعوّل عليها لإعادة ترتيب التحالفات، شكل صفعة دبلوماسية جديدة للنظام المصري وأظهر عجزه عن التأثير في مسار الأحداث.

لم تخلُ الساحة السياسية من انتقادات حادة لسياسات السيسي في السودان، فقد صرح مسؤولون سودانيون بأن التدخلات المصرية ساهمت في إطالة أمد الصراع وزيادة معاناة المدنيين، كما أشار محللون مصريون إلى أن النظام المصري بات يفتقر لأي حلول عملية للأزمة السودانية، مكتفيًا بمحاولات العرقلة وكسب الوقت دون نتائج ملموسة.

كما حذرت تقارير غربية من أن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى مزيد من التدهور الأمني على الحدود المصرية، ويهدد المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للقاهرة في المنطقة.

 

التداعيات الإقليمية

أدى فشل نظام السيسي في إدارة الملف السوداني إلى تعقيد علاقات مصر مع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في السودان، خاصة مع السعودية والإمارات والولايات المتحدة، التي باتت ترى في الدور المصري عامل إعاقة أكثر منه عنصر استقرار.

كما أن استمرار النزاع على الحدود يهدد الأمن القومي المصري، ويزيد من مخاطر تسلل الجماعات المسلحة وتهريب السلاح، في ظل تراجع قدرة الجيش المصري على ضبط الحدود.

وتواجه القاهرة الآن معضلة حقيقية بين ضرورة حماية مصالحها وبين عجزها عن التأثير الفعلي في مسار الأحداث، ما يكرس صورة نظام السيسي كنموذج للفشل السياسي والعسكري في محيطه الإقليمي.

بهذا يتضح أن سياسات نظام السيسي تجاه السودان لم تحقق سوى مزيد من الفوضى والتوتر على الحدود، وأن إخفاقاته المتكررة في بناء تحالفات فعالة أو تقديم حلول واقعية للأزمات الإقليمية باتت تهدد استقرار مصر نفسه وتضعها في مواجهة تحديات متزايدة على كافة الأصعدة.