أراشيفُ الصراعات الحديثة، من أوكرانيا إلى غزة، تميزّت باستخدام كثيف لطائرات الاستطلاع والمركبات الموجهة والحواسيب في سبيل الفوز، وفق تحليلات منشورة على موقع مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي. أسهمت تقنيات التتبع الرقمي وأتمتة تحديد الأهداف في صنع نموذج حرب يضع الكفاءة المطلقة في المقام الأول. يركز هذا النموذج على العمليات والإجراءات، يقدّس الحساب والقياس، وقد كوفئ بنموذج تنظيمي كامل قائم على السيطرة وتقليص الزمن والجهد. ولا تُختبر هذه الفلسفة إلا على ساحة المعارك، حيث تبرز هشاشتها عند التصادم مع الواقع الميداني.
الهيمنة الرقمية: أصلٌ عتيق .. امتدادات حديثة
اتبعت الجيوش منذ منتصف القرن العشرين منهجًا يجمع البيانات لتطبيق قوانين عامة تعتمد الكم، مستندةً إلى حوسبة مكثفة. توقع خبراء الحروب الرقمية أن التدفق المعلوماتي سيُترجم إلى ميزة تنافسية. إلا أن خبرات طائرات “ليون إير 610” تُظهر كيف تؤدي الأنظمة الآلية بناءً على بيانات خاطئة إلى كوارث بشرية ملموسة.
المنظومات العسكرية الرقمية التي تعزز دقة الاستهداف أبت إلا أن تؤدي إلى نظام يُحرّم الخطأ البشري ويخفيها خلف أتمتة تبدو محايدة. يعيد هذا النظام تنظيم الجيوش حول التقنية، على نحو يظهره نموذج "ثورة الشؤون العسكرية" الذي غيّر موازين الحرب في التسعينيات، لكن فشل في تحقيق أهداف بعقيدة "قصف استراتيجي" دون دعم بري، كما أكدت عمليات فيتنام وأفغانستان.
الدقة أم الفعالية؟ السؤال المثي
تُعلن النظم الرقمية كقاعدة لانتصار عسكري سريع، لكن الوقائع أثبتت خلاف ذلك: قنابل دقيقة قتلت قياديين مدنيين عديدين، وتركز الضربات لا يؤدي دائمًا إلى انهيار العدو. مثلاً، باستخدام UAV والذكاء الاصطناعي في غزة، لحظت بعض الدراسات أن حجم الدمار فاق التفجيرات النووية في هيروشيما، لكن المقاومة والتحليل الاستراتيجي لم يتراجعا، بل استمر التوتر. وفي أوكرانيا، شكّلت الضربات الدقيقة دعمًا، لا أصلًا لتحطيم دفاعات روسيا.
هنا تبرز مفارقة: النظام فقد وظيفته كأداة لتحقيق هدفٍ واضح، إذ صارت الكفاءة هدفًا في حد ذاتها. صار "العدّ" والحرص على التقنية خير غطاء للمزيد من السيطرة والالتباس الاستراتيجي.
التقنية تُخضع البشر
يشير كثير من الفلاسفة إلى أن التقنية تحوّل الإنسان إلى مجرد جزء ضمن نظام أكبر. صنعتیوي وهايدجر حذّروا من حدوث ما أسموه تقانة الذات، وتركيز السلطة في أيدي أدوات تتحكم بالسلوك البشري. تمرجح تنقيب البيانات والسعي وراء الدقة يؤدي إلى دوامة لا تنتهي من الأتمتة والإصدار الأعمى للقرارات.
مصنّعو القرار وتفكير، فشلوا في تمييز الفرق بين “الكفاءة” المثالية و”الفعالية” الواقعية. اكتفى البعض بإغراق الجيوش بمزيد من البرمجيات والروابط الرقمية، وانشغلت المؤسسات عن الساحة الحقيقية. هنا ضاع البعد الإنساني من الحروب.
الخطورة في غياب التساؤل الفكري
فُرضت أساليب السيطرة الرقمية كحل نهائي، لكن تبخرت معها أبعاد الحراك الاجتماعي والسياسي. لم تُطرح أمور أساسية: لماذا يقاتل الناس؟ ما دلالة الحرب على وجدان المجتمعات؟ يتجاهل النموذج الرقمي الإجابات على هذه الأسئلة.
إذا لم يبدأ الجدل العسكري بفحص طبيعة "الهدف" و"السياق"، فسنستمر في صناعة أعداء افتراضيين يسهل استهدافهم، بينما العدو الحقيقي—بشريًا، سياسياً، نفسياً—يبقى حيًا ومتعمّدًا ارتداد أثره.
خلاصة: نحو نهجٍ وفكرٍ إنساني
يقترح التحليل أن نقاوم وسوسة ما يُشاع عن أن التقنية هي الحل النهائي. ندعو إلى تساؤل جوهري في فلسفة الحرب الرقمية، لا مجرّد تعديلات تقنية. لا بد من إعادة احتضان البعد الإنساني للصراع؛ من التفكيك لفهم دوافع الخصم، واحترام التعقيد الميداني، واستثمار البصيرة النوعية بدل الانغماس في القياسات الشاملة.
في نهاية المطاف، الحروب القادمة لا تحتاج إلى أتمتة مكثفة فحسب، بل إلى وعي نقدي يعيد فيها المجتمعات دورها، قبل كل شيء، سواء على نار المواجهة أو كرر الصراع.
https://carnegieendowment.org/research/2025/06/a-digitized-efficient-model-of-war?lang=en