أثارت دعوة مثيرة لنقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى العاصمة السعودية الرياض عاصفة من الجدل، فتحت الباب أمام نقاشات أعمق بشأن مكانة مصر داخل النظام العربي الرسمي، وهوية العروبة نفسها، وحدود الدور السعودي المتصاعد في المؤسسات الإقليمية.

 

دعوة غير تقليدية تُفجر جدلاً سيادياً وثقافياً
أطلق عماد جاد، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، دعوة عبر صفحته الرسمية على "فيسبوك" وصفها بـ"الموضوعية"، يقترح فيها نقل مقر الجامعة العربية إلى السعودية، على أن يتولى أمين عام سعودي قيادة الجامعة في مرحلتها المقبلة.
جاد برّر اقتراحه بأن "العرب جاءوا من السعودية واليمن"، وبناءً على ما سماه "التوازنات الراهنة"، فإن الوقت قد حان - حسب تعبيره - لأن يكون أمين عام الجامعة سعودي الجنسية.

لكن الطرح الذي حمل عنوانًا رومانسيًا "دعوة للتفكير بهدوء" كان كفيلاً بإثارة عاصفة من ردود الأفعال، خاصة من أصوات مصرية اعتبرت التصريح مساسًا بدور القاهرة التاريخي، وتهديدًا للهوية الثقافية الجامعة التي شكلت العروبة على مدار قرن.

 

أصوات رافضة: مصر ليست طارئة على العروبة
أبرز المعارضين للفكرة كان إمام وخطيب مسجد عمر مكرم، الشيخ مظهر شاهين، الذي حذّر مما اعتبره "إعادة تعريف خطير للانتماء العربي على أسس عرقية وجغرافية، بدلاً من أن يكون انتماءً حضاريًا ولغويًا وثقافيًا".

شاهين، الذي أصدر بياناً مطولًا رداً على جاد، رفض الإيحاء بأن مصر ليست جزءًا أصيلاً من العالم العربي، وقال إن مصر لم تكن يومًا تابعة للمشروع العربي بل كانت قائدته ومصدر إلهامه، معتبرًا أن تقليص دورها بهذه الطريقة يفتح الباب أمام إقصاء دول محورية ويُضعف وحدة الصف العربي.

وأكد شاهين أن نقل مقر الجامعة أو منح السعودية الأمانة العامة ينبغي أن يتم وفق أسس مؤسسية وتوافق جماعي، لا عبر إسقاطات رمزية تحمل في طياتها تحولات عميقة في تمثيل القيادة الإقليمية.

 

خلفية تاريخية: القاهرة والجامعة.. علاقة بدأت منذ التأسيس
أنشئت جامعة الدول العربية عام 1945، وكان مقرها الدائم منذ ذلك الحين في القاهرة، كما نص ميثاقها في مادته العاشرة. ورغم السماح بانعقاد الاجتماعات في أي مدينة عربية أخرى، فإن نقل المقر بشكل دائم لا يتم إلا بتعديل الميثاق بالإجماع، وهو أمر لم يحدث سوى مرة واحدة استثنائية في تاريخ الجامعة.

ففي عام 1979، وعقب توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، تقرر نقل مقر الجامعة إلى تونس، في خطوة اعتُبرت حينها رفضًا عربيًا لسياسات القاهرة، وتم تجميد عضويتها لعقد من الزمن.
لكن سرعان ما تغيرت المعادلة، وفي 1989 رُفع العلم المصري مجددًا على مقر الجامعة بتونس، ثم عادت رسمياً إلى القاهرة في 1990، في مشهد جسّد آنذاك استعادة مصر لدورها المركزي في النظام العربي.

 

البُعد القانوني والسياسي: ماذا يقول الميثاق؟
ينص ميثاق الجامعة في مادته 12 على أن تعيين الأمين العام يتم بثلثي أصوات الدول الأعضاء البالغ عددها 22 دولة. ووفق العرف المتبع، غالباً ما يُعيّن الأمين العام من دولة المقر.
وبما أن المقر في القاهرة منذ التأسيس، فقد كانت الأمانة العامة دومًا من نصيب مرشحين مصريين، ما يعكس توازنًا تقليديًا استقرت عليه الدول، رغم ما شاب النظام العربي من أزمات.

إلا أن التحولات المتسارعة في موازين القوى الإقليمية، وتنامي النفوذ السعودي الاقتصادي والسياسي، دفعت البعض - كجاد - لطرح أفكار صادمة بالنسبة للمؤسسة التقليدية.

 

خلف الكواليس: سباق على خلافة أبو الغيط
يتزامن الجدل الحالي مع اقتراب نهاية الولاية الثانية للأمين العام الحالي أحمد أبو الغيط في سبتمبر المقبل، وسط تسريبات إعلامية تفيد بنية القاهرة ترشيح رئيس حكومة عبدالفتاح السيسي الحالي مصطفى مدبولي لهذا المنصب.

 

ما بين هوية الجامعة وطموحات السعودية
السعودية لم تُبدِ بعد موقفًا رسميًا من دعوة عماد جاد، لكن مراقبين يرون أن الطرح لا ينفصل عن تطلعات الرياض لإعادة تشكيل النظام العربي بما يتماشى مع سياساتها الإقليمية الجديدة، والتي تتقاطع مع مشاريع تحديثية شاملة على غرار "رؤية 2030".

ومع أن انتقال مقار المنظمات لا يتم بقرار فردي، فإن الأهمية الرمزية للجامعة العربية ومقرها تجعل من هذا الجدل فرصة لكشف التوترات الخفية حول "من يقود العرب؟"، و"أين تُصنع القرارات؟"، و"ما مستقبل الهوية الجامعة؟"