لا تمرّ مشاعر القلق أو الصدمات التي يتعرض لها الطفل بشكل عابر، بل تترك آثارًا عميقة على المستويات العقلية والنفسية والجسدية، قد تستمر معه حتى مراحل متقدمة من حياته. هذه الآثار قد تظهر على شكل اضطرابات مزاجية أو اكتئاب، وقد تصل في بعض الحالات إلى أمراض عصبية مثل الزهايمر. وتتفاقم هذه النتائج بشكل أكبر في حال غياب التدخل العلاجي المناسب.
صدمات منذ اليوم الأول في الحياة
فالطفل، حتى في يومه الأول بعد الولادة، قد يمر بتجارب توتر وضغط نفسي كافية لإحداث صدمة نفسية – أو ما يُعرف بـ"الصدمة الطفولية" (التروما) – وهي حالة قد تُصيب الأطفال من عمر يوم واحد حتى سن 18 عامًا، ما يجعلهم عرضة لمخاطر نفسية طويلة الأمد ما لم يُعالجوا بالشكل الصحيح.
وبحسب وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية، فإن أبرز أنواع الصدمات التي يتعرض لها الأطفال تشمل:
- الإساءة أو الاعتداء النفسي أو الجسدي أو الجنسي.
- العنف المنزلي أو المدرسي أو المجتمعي.
- الحروب والكوارث الوطنية.
- فقدان الممتلكات أو النزوح.
- الفقدان المفاجئ أو العنيف لأحد الأحباء.
- تجارب اللجوء أو الحرب.
- الضغوط المرتبطة بعمل أحد أفراد الأسرة في المجال العسكري.
- الحوادث الخطيرة والأمراض التي تهدد الحياة.
- الإهمال والتجاهل والتعرض للتنمر.
وهو ما يظهر في صورة علامات واضحة وعديدة على الطفل، تؤكد إصابته بالصدمة أبرزها:
- شعور الأطفال في سنة ما قبل المدرسة بالخوف من الانفصال والكوابيس والبكاء أو الصراخ كثيرا مع ضعف الشهية.
- إصابة الأطفال في عمر المرحلة الابتدائية بالقلق، والشعور بالذنب والخجل وعدم التركيز، مع صعوبة النوم والانسحاب من المجتمع وعدم الاهتمام، مع عدوانية واضحة.
- إصابة الأطفال في عمر المدارس المتوسطة والثانوية بالاكتئاب وإيذاء النفس وتعاطي المخدرات وأيضا الانسحاب أو عدم الاهتمام أو اتباع السلوك المحفوف بالمخاطر والعدوان.
صورة أقرب لما يحدث حقًا
في عام 2012، حاول مجموعة من الباحثين في البرازيل دراسة "تأثير ضغوط الطفولة على الأمراض النفسية" بصورة أعمق، تحديدا عبر التصوير بالرنين المغناطيسي، وقد أظهرت تقنيات التصوير العصبي العديد من التغيرات العصبية الهيكلية مثل:
- انكماش الحصين وهو الجزء المسؤول عن الذاكرة في الدماغ، وأيضا انكماش الجسم الثفني وهي عبارة عن حزمة من الألياف العصبية تعمل على ربط نصفي الدماغ أحدهما مع الآخر وتبادل المعلومات.
- زيادة خطر الإصابة باضطرابات المزاج.
- زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب.
- زيادة خطر الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب.
- إمكانية الإصابة بالفصام.
- زيادة احتمالات إدمان المخدرات.
وفي مقال علمي نشر بمجلة "السلوك البشري في البيئة الاجتماعية" عام 2018 أشارت الباحثة هيثر دي إلى العواقب السلبية طويلة المدى للصدمات المعقدة، تقول دي "تتسبب مثل تلك الصدمات في تغيرات عصبية حيوية تؤثر على نمو الإنسان وتسبب تغيرات كبيرة في وظائف المخ وهياكله المسؤولة عن الأداء الإدراكي والجسدي، فضلا عن أعراض جسدية وعقلية وعاطفية يمكن أن تستمر حتى مرحلة البلوغ".
مزيد من التأثيرات البدنية والنفسية والعقلية تظهر على الأطفال بوضوح عقب التعرض للصدمات أبرزها:
- الشعور بالإجهاد البدني وأعراض جسدية مثل الصداع وآلام المعدة غير المبررة.
- تأثر القدرات المعرفية والعمليات العاطفية العقلية فتصبح أمور مثل حل المشكلات والتخطيط وتعلم معلومات جديدة، والتفكير وفق منطق فعال أمرا صعبا وغير ممكن.
- تدني احترام الذات والشعور بعدم القيمة والعار، والذنب واللوم المتواصل للذات والشعور بالعجز.
- صعوبة في إدارة العواطف التي تصبح مع الوقت عامرة بالخوف والقلق.
- تأثر قدرات الطفل على تكوين علاقات اجتماعية مع الأصدقاء أو مقدمي الرعاية أو المحيطين به بشكل طبيعي.
من التهاب الأعصاب إلى ألزهايمر
الأطفال أكثر عرضة للتأثر بالأحداث المجهدة في حياتهم بسبب ضعف قدرتهم على التعامل مع التوتر. وقد ربط باحثون من معهد برشلونة للصحة العالمية -بالتعاون مع عدة مراكز أخرى- بين ضغوط منتصف العمر وصدمات الطفولة، وزيادة خطر الإصابة بمرض ألزهايمر نتيجة لارتفاع مستويات بروتين بيتا أميلويد، الذي يعد بروتينًا أساسيًا في تطور مرض ألزهايمر، بالإضافة إلى زيادة احتمالات الإصابة بالتهاب الأعصاب.
ويقول الباحث إيدر إرينازا أوركيو، أحد المشاركين في الدراسة، إن الاستجابة للتوتر تختلف بين الأفراد؛ ففي حين يتراكم بروتين الأميلويد لدى الرجال، تصاب النساء بضمور الدماغ. ويزداد الأثر بشكل أكبر لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ من الأمراض النفسية، حيث يتأثرون لاحقًا بانخفاض حجم المادة الرمادية في أدمغتهم مع تقدمهم في العمر.
هكذا تُجنب طفلك المعاناة مبكرا
"لا يمكن تجنيب الأطفال الصدمات أو المعاناة، فهي خارج دائرة التحكم، كالمرض أو التعرض لمشاهد سيئة، أو الحوادث وغيرها". تحسم الأخصائية النفسية دعاء السماني الأمر مؤكدة "سوف يعاني الطفل ويتعرض للصدمات على طول الطريق، ولذلك جانب إيجابي فهي تساهم في تهذيب النفس، وتساعد الطفل على النمو وتكوين أساليب ومهارات أفضل للتكيف، لكن هذا مرهون بالطريقة التي يتم التعامل بها مع الطفل عقب الصدمات"، وفقًا لـ"الجزيرة نت".
وتنصح السماني بإسعافات نفسية أولية إن تعرض الطفل لصدمة أو إجهاد نفسي شديد، تقول "في البداية ندع الطفل يتحدث بحرية عما حدث بطريقته، دون أسئلة تشعره بالتقصير أو أنه مسؤول عما جرى، أو أنه كان يمكن أن يتصرف بطريقة أفضل، التعافي من الصدمات يستغرق وقتا، يختلف من طفل لآخر بحسب شخصيته وطبيعة الصدمة التي تعرض لها، المهم ملاحظة سلوكه، والطريقة التي يتعامل بها مع من حوله، مادامت طبيعية فهو في طريقه للتحسن، أما إذا تأثرت حياته أو بدا عليه تغييرات فيجب اللجوء لمختص نفسي".