أعلنت شركة أبو قير للأسمدة تراجعها عن إنشاء مجمع صناعي ضخم لإنتاج الميثانول والأمونيا في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، رغم مضي أكثر من ثلاث سنوات على التخطيط له، ووسط توقعات كبيرة بدوره في تعزيز القيمة المضافة للغاز الطبيعي المصري وتحقيق قفزة في الصادرات الكيماوية.
السبب المُعلن للتراجع، وفقًا لبيان رسمي للبورصة المصرية، هو عدم قدرة الشركة على تأمين احتياجات المشروع من الغاز الطبيعي، وهي أزمة تتقاطع مع اضطرابات سوق الطاقة في مصر. لكن التوقيت والسياق يطرحان تساؤلات أوسع، تتجاوز مجرد نقص الإمدادات إلى صميم التحولات في الملكية وهيكل القرار الاستثماري بعد دخول مستثمرين خليجيين كبار إلى الشركة.
مشروع بمليارات الدولارات يُلغى.. ومصر قد تتحول من مُصدر إلى مستورد
بدأت فكرة المجمع في عام 2021، وكانت تستهدف إنشاء مجمع صناعي متكامل على مساحة 2 مليون متر مربع، بتكلفة تقديرية تبلغ 2.6 مليار دولار على مرحلتين. المشروع كان يضم شركاء كبار من القطاع العام والمالي مثل شركة أبو قير للأسمدة، شركة حلوان للأسمدة، وشركة الأهلي كابيتال. المرحلة الأولى وحدها كانت تستهدف إنتاج مليون طن ميثانول و400 ألف طن أمونيا سنويًا، مع تصدير معظم الإنتاج إلى الخارج.
التوقف المفاجئ عن المشروع لا يمثل فقط ضربة للاستراتيجية الصناعية المصرية، بل قد ينقل مصر من موقع المُصنع والمُصدر إلى موقع العميل والمستورد لنفس المنتجات، وخاصة مع تصاعد دور شركات خليجية تنتج نفس المواد وتتمدد في السوق المصري.
أزمة الغاز: عرض أم طلب؟
الانسحاب جاء في خضم أزمة طاقة تمر بها مصر منذ أكثر من عام، دفعتها إلى استيراد غاز طبيعي وبترول بقيمة 10 مليارات دولار خلال 6 أشهر فقط، بزيادة تقارب 53% مقارنة بالعام السابق. هذه الأزمة تعود في أحد أوجهها إلى تباطؤ استثمارات شركات الطاقة الأجنبية بسبب تراكم مستحقاتها التي تجاوزت 6 مليارات دولار، ما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي.
لكن في الوقت ذاته، بدأت الحكومة التحرك لتسديد هذه المستحقات، في خطوة وصفها مراقبون بـ"المتأخرة"، أملاً في استعادة التدفقات الاستثمارية وتحسين إمدادات الغاز، مما يجعل توقيت إلغاء مشروع بهذا الحجم غير مبرر كليًا من زاوية الطاقة فقط.
الاستحواذات الخليجية تغيّر قواعد اللعبة
في خضم هذه التطورات، لا يمكن تجاهل تغير هيكل ملكية الشركات المصرية المشاركة في المشروع. فشركة أبو قير للأسمدة، التي كانت أبرز المشاركين، لم تعد مملوكة للدولة المصرية بالكامل، بعد أن استحوذ صندوق أبوظبي السيادي (ADQ) على 21.5% من أسهمها، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي على نحو 20% أخرى. أي أن أكثر من 40% من الشركة باتت في يد مستثمرين خليجيين يملكون مصالح متشابكة في قطاع البتروكيماويات.
أما شركة حلوان للأسمدة، فجزء من ملكيتها يعود أيضًا لأبو قير، ما يجعل تأثير الاستحواذ مضاعفًا. وتملك شركات حكومية أخرى مثل مصر للتأمين حصصًا إضافية، وهي بدورها معروضة للبيع ضمن خطط الطروحات الحالية.
من التنافس إلى "التكامل".. ولكن لصالح من؟
التغير في هيكل الملكية لا يمر دون أثر على القرار الاستثماري. فمن المحتمل أن يكون المستثمرون الجدد، الذين يملكون بالفعل شركات منافسة في الخليج تنتج نفس المواد بأسعار أرخص، قد رأوا أن بناء مصنع جديد في مصر لا يخدم مصالحهم الاستراتيجية، خصوصًا مع انخفاض تكلفة الطاقة في بلادهم.
بل إن هناك من يرى أن الاستثمار الخليجي في أصول قائمة، بدلًا من ضخ استثمارات في مشاريع جديدة، أدى إلى ما يشبه "تعطيل" النمو الصناعي المصري لصالح تعزيز القدرات التصديرية للخليج عبر السوق المصري.
والأخطر أن مستقبل توريد الأمونيا – وهي مادة أساسية لخط إنتاج أبو قير نفسها – قد يتحول إلى عملية استيراد من السعودية أو الإمارات، بدلاً من الإنتاج المحلي. وذلك في وقت تتوسع فيه الإمارات مثلاً في مشاريع الأمونيا الخضراء والهيدروجين داخل المنطقة الاقتصادية نفسها التي كان سيُبنى فيها المجمع المصري.
الأرباح للخارج.. والفاتورة على مصر
في نهاية المطاف، فإن هذا النموذج من الاستحواذات يعني أن عوائد التصدير، إن وُجدت، سيتم اقتسامها، في حين أن الأرباح السنوية ستحوّل إلى الخارج بالدولار، وهو ما يزيد الضغوط على ميزان المدفوعات. ورغم أن الحكومة اتفقت مؤقتًا على تأجيل تحويل الأرباح، إلا أن هذا الخيار لن يصمد طويلًا.
لو كانت هذه الاستثمارات الخليجية موجهة لمصانع جديدة، لكان الأثر مختلفًا تمامًا: زيادة حقيقية في الإنتاج، وظائف جديدة، ودعم فعلي للصادرات. لكن ما جرى كان أقرب إلى نقل الملكية من يد الدولة إلى يد مستثمرين يسعون إلى تحقيق التكامل مع مصانعهم في الخليج، وليس إلى تطوير الصناعة في مصر.