د. عصام تليمة

من علماء الأزهر، حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن

 

طفت على سطح الأحداث في الأيام الماضية، معركة تتعلق بالفتوى والإفتاء، بين وزارة الأوقاف من جهة، والمؤسسة الأم: الأزهر الشريف، حيث فوجئ الجميع بالذهاب لمجلس النواب المصري لسن قانون أو صيغة مشروع، يتيح لوزارة الأوقاف أن تتخذ مقرات من المساجد لأئمة تابعة لها تقدم الفتوى للجمهور، وحتى يمر القانون على المؤسسة الأزهرية، ذيل بأن ذلك سيكون بالتعاون مع الإفتاء والأزهر، بعد اجتياز الإمام للتدريبات المؤهلة لذلك.

 

تكذيب الأزهر للأوقاف وغضب علي جمعة

وبادر الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف بإعلان التوصل للاتفاق على ذلك بين الأزهر والوزارة، عبر صفحته الشخصية الرسمية، وأن ذلك تم بحضور وكيل الأزهر الدكتور محمد الضويني، لنفاجأ بعدها بسويعات قليلة، بما يشبه التكذيب الرسمي لرواية الأزهري، بأن ذلك لم يحدث، بل ما أعلنه ممثل الأزهر في مجلس النواب، هو الرفض، وذلك امتثالًا لقرار الأزهر من خلال مناقشة هيئة كبار العلماء للأمر، ورفضها ذلك تمامًا.

فقام ينافح عن موقف الأزهري شيخه الدكتور علي جمعة مفتي مصر الأسبق، الذي زعم أن رد الأزهر مخالفة للأعراف البرلمانية، وكأن المطلوب أن يذهب الأزهر لفخ ينصبه مع تلميذه، لسحب صلاحيات من الأزهر بشكل لا يليق بأحد ينتمي للمؤسسة الأزهرية.

وقام بالاصطفاف مع علي جمعة والأزهري نواب حزب النور، وذلك مخافة أن يعاقبوا من الأوقاف بسحب تراخيص الخطابة والمساجد، وجمعة سبب غضبه، واصطفافه مع الأزهري هو الحالة التي وصل إليها من يأسه أن يكون شيخًا للأزهر، فجمعة لا تنطبق عليه الشروط التي وضعت في هيئة كبار العلماء، لمن يصلح أن يكون مرشحًا للمشيخة، في حال شغور المنصب، فالشرط أن يكون المرشح أزهري النشأة والدراسة، أي أن يكون تدرج في سلم طلب العلم الأزهري، من المرحلة الابتدائية، وحتى الجامعة، وما بعدها، وهو شرط لا ينطبق على جمعة، لأنه درس في الأزهر في المرحلة الجامعية وما يليها فقط.

 

لماذا يرفض الأزهر مشروع الأوقاف؟

رفض الأزهر لمشروع الأوقاف مفهوم، فهو يأتي في إطار نزع صلاحيات المؤسسة من أهم ملفاتها، وهو الفتوى، وهو مخطط تسعى إليه السلطة المصرية منذ الحكم العسكري سنة 1952م، فقد كانت المساجد والوعظ يتبع الأزهر قبل هذه المرحلة، لكنه سحب منها أهم ركائز المؤسسة المالية والعلمية، فتم إلغاء الوقف ومصادرته، وعاد بعد ذلك الوقف المسيحي، ولم يعد الوقف الإسلامي للأزهر، ووضعت الأوقاف في وزارة الأوقاف، وعين للإشراف على كل مفاصلها المهمة ضباط جيش، وكانت تخرج الكتب العلمية والمجلات التابعة للأوقاف، وتجد عليها هذه العبارة: تحت إشراف: محمد توفيق عويضة، من هذا الشخص؟ هو رجل جيش في عهد عبد الناصر، وكانت له الكلمة الأولى والأخيرة في الأوقاف، وقد حدث صدام بينه والشيخ الشعراوي حين تولى الوزارة.

وتم سحب ملف الوعظ والخطابة من الأزهر كذلك، في مراحل تالية، بضم المساجد للأوقاف، وتم تحجيم دور الوعظ في الأزهر، لصالح توسع وزارة الأوقاف، على حساب الأزهر والمساجد الأهلية، والمساجد التابعة لجمعيات دينية رسمية، كأنصار السنة، والجمعية الشرعية، وغيرهما من الجمعيات.

وكان ملف الفتوى خاصًا ومحصورًا بالأزهر، ثم سحبت بعض الملفات لصالح دار الإفتاء المصرية، وهي مهمة ووظيفة بالأساس معنية بقضايا وزارة العدل، فالمنصب في أساسه اسمه: مفتي العدل، أي: مفتي وزارة العدل، ولا يزال تعيين المفتي من خلال وزارة العدل، ولكن تم توسع الدور، برضا الأزهر، وليس سحبًا لصلاحياته، فقد كان للأزهر لجانه للفتوى، سواء في جامع الأزهر، أم في محافظات مصر، ففي كل إدارة وعظ للأزهر، فيها مشايخ فتوى، يعتمدهم الأزهر، يعملون يوميًا من الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية ظهرًا.

 

لماذا خلع الشعراوي الزي الأزهري بقية عمره؟

وقضية سحب صلاحيات من الأزهر لصالح الأوقاف، قضية كما ذكرنا زادت عن حدها بعد حكم يوليو، وهو ما لاحظه الشيخ محمد متولي الشعراوي، حين كان وزيرًا للأوقاف، وكان شيخ الأزهر آنذاك الدكتور عبد الحليم محمود، وكانت درجة الشعراوي الوظيفية أعلى من شيخ الأزهر، ولاحظ أن هناك أمورًا لا تمضي إداريًا في الأزهر، إلا بتوقيع الوزير، ورأى في ذلك مهانة وإهانة للمؤسسة التي ينتمي إليها ولمقام المشيخة، والذي هو عند كل أزهري أصيل لا يقبل المساس بها.

ذهب الشعراوي بمسودة مشروع ينظم الأزهر وصلاحياته، ويجعل مقام شيخ الأزهر إداريًا على درجة رئيس وزراء، ولا ينضوي تحت الأوقاف في أي قرار إداري، وقدم ذلك للرئيس الراحل محمد أنور السادات، ولأن السادات داهية سياسي قديم، فبادر بإلقاء تهمة على الشعراوي، لينظر هل يفعل ذلك تهيئة لنفسه لتولي المنصب فيما بعد، فقال له: هل تطمح أن تكون شيخًا للأزهر يا شيخ شعراوي؟ فأجاب بالنفي القاطع، ولكنه يرى الوضع الحالي يمس مقام المشيخة والأزهر وهو أمر لا يليق بمصر بلد الأزهر.

وإغلاقًا لهذا الباب أمام هوى النفوس، قام الشعراوي بخلع الزي الأزهري، وذهب إلى “ترزي” ماهر يعرفه، وشرح له فكرته، أن يخيط له زيًا، فيه روح الزي الأزهري، لكنه ليس مثله، فهو من النصف الأعلى منه قريب من الزي الأزهري، وبقية الزي مثل الجلباب البلدي الذي يرتدى في الأرياف والصعيد، وطلب أن يخيط له طاقية بحائط كما يسميها المصريون، بالشكل الذي كان يبدو بها في آخر عشرين عامًا من حياته -رحمه الله-، وصارت تسمى بطاقية الشيخ الشعراوي، وزي الشيخ الشعراوي.

 

مؤسسة دينية موحدة

لقد كان الشعراوي يؤمن، وكل أزهري فاطن وفاقه لقيمة الأزهر، أن ما جرى من تفتيت صلاحيات الأزهر، فسحب بعض صلاحيات الفتوى لدار الإفتاء، ثم سحب ملف الوعظ والإمامة للأوقاف، وتم التضييق على ميزانية الأزهر وأوقافه، وهذه الإجراءات كلها غير صحية، ولا تمت للمؤسسية بصلة، وهو ما لا نراه في بقية المؤسسات الدينية والعسكرية.

فهل رأينا الكنيسة الأرثوذكسية في مصر وخارجها، أو الكاثوليكية في الفاتيكان، تفتت صلاحياتها وأقسامها ومهامها، بين جهات ثلاث، كل جهة برأس منفصل تماما عن الآخر؟ وربما دب بينهم العداء والخصومة فعملوا على غير المصلحة، والأمر نفسه على المؤسسة العسكرية، فكل الكليات الحربية بكل أقسامها، وكل المؤسسات العسكرية، كلها تحت وزير واحد، وهذه المؤسسات كلها تحت قيادة: القائد الأعلى للقوات المسلحة، والحال نفسه في المؤسسات الدينية غير السنية، فالوقف والخطابة والإفتاء ينضوي تحت قيادة موحدة، فلماذا يظل الأزهر ومؤسساته الدينية نشازا عن كل تقاليد المؤسسات؟!

هذه الأسباب وغيرها، تجعل موقف الأزهر رافضًا تمامًا للفكرة بهذه الكيفية، لأن المقصود منها ليس خدمة المواطن في الفتوى، إذ أن وزارة الأوقاف حاليًا من أهم مهامها الوظيفية: الخطاب الديني، فهل قام أسامة الأزهري ووزارته بذلك؟ ونقصد بالخطاب الديني هنا ترشيده وتقويته، وليس تحويله لخطاب أمني بحت، يراعي متطلبات الأمن الوطني، ولا يراعي متطلبات مستهدف الشرع منه، فهل ملأت الأوقاف الفراغ، وعالجت الضعف لدى خطبائها، من حيث القوة العلمية، ومن حيث معالجة الضعف المالي الذي يصيب الخطباء والأئمة؟ لدى الوزارة أوقاف تجعل من أئمتها من أفضل الناس حالًا في الراتب المعيشي، لكنها لا تفعل ولا تفكر، وآخر ما تفكر فيه هو حال الإمام الاقتصادي والعلمي، فالأهم لديها حال الإمام الأمني.

فإذا عجز الأزهري ووزارته عن المهمة الرئيسة له، يكون الذهاب لصلاحيات الأزهر في الفتوى، هو هروب من المسؤولية، والذهاب للبهرجة الإعلامية واللقطة، وهو ما برع فيه الأزهري منذ توليه الوزارة عبر لقطات إعلامية، بينما فعل عملي على أرض الواقع، فلا وجود له حتى الآن. في مثل هذا المقام في الامتحان يقال للشخص: انظر في ورقتك، ولا تنظر لورقة الآخرين. وهو ما يقال لوزير الأوقاف، استفرغ جهدك وطاقتك في وزارتك ومسؤولياتك، ودعك من مناكفة الأزهر شيخا ومؤسسة، ولا يجرنك علي جمعة لتكون أداة لمناكفة الأزهر، تعويضا له عن ضياع فرصته في المشيخة، وإغلاق بابها عليه.

وعلى الأزهر إغلاقا لهذا الباب الذي يفتح كل فترة، أن يغلقه تمامًا، بطلبه الصريح، بتوحيد المؤسسة بكل أقسامها، لتكون كما كانت، وكما ينبغي أن يكون العمل المؤسسي، فتكون: الأوقاف بكل أقسامها، والإفتاء، والمعاهد والمساجد، وكل ما يتعلق بالمؤسسة الدينية، ليكون تحت مسؤولية واحدة، ورؤية واحدة، ورأس واحد: الأزهر.