تشترك مختلف محطات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ النكبة حول حقيقة مؤلمة وثابتة، استباحة الجيش الإسرائيلي ومن يدعمونه الدم الفلسطيني، وهذا ليس جديداً.
ولكن الجديد أن استباحة الدم الفلسطيني عرفت عهدا جديدا منذ 8 أكتوبر (2023) حيث شارك فيها العدو والبعيد والقريب وبعض العرب.
ويتصف مخطط استباحة الدم الفلسطيني اليوم بتقاسم محكم للأدوار بين إسرائيليين وأميركان وأوروبيين وعرب، لتجمع مهام الأطراف المشاركة في هذه الجريمة التاريخية بين التدمير اليومي للقطاع وتوفير الدعم العسكري والمادي والسياسي.
التعتيم الإعلامي ومحاصرة المدنيين وتجميعهم، وذلك لتنفيذ مشروع سياسي قديم يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وإعادة تشكيل جغرافية الجوار الفلسطيني، إن لم نقل جغرافية الشرق الأوسط، فما وراء استباحة الدم الفلسطيني اليوم؟

تتغذّى استباحة الدم الفلسطيني اليوم من خطاب تحريضي إسرائيلي يعمل على تطبيع ما كان محرّماً فيما يخصّ قتل المدنيين والتهجير الجماعي.
ويشمل الخطاب التحريضي كل مكونات المجتمع الإسرائيلي، حيث كشفت صحيفة هآرتس، في إحدى مقالاتها، أن العبارات التحريضية المرتبطة بغزّة مثل عبارة محو غزّة، وتسويتها بالتراب وتدميرها، ذكرها الساسة والجنرالات والصحافيون والمؤثرون والنجوم، أكثر من 18 ألف مرة في منشورات بالعبرية، منذ أكتوبر 2023.
على سبيل المثال، صرح وزير الدفاع، يواف غالانت، "نحن نقاتل حيواناتٍ بشرية ونتصرّف بناء على ذلك".
وصرّح رئيس الوزراء السابق، نفتالي بينت، "نحن نقاتل النازيين".
وقال إيتمار بن غفير، الذي أصبح وزيرا للأمن، في حكومة نتنياهو، "يجب "سحق" أي شخص يدعم حماس"، وأثار وزير آخر فكرة ضرب القطاع بقنبلة نووية، وصرّح وزير التراث، أميخاي إلياهو، بأنه لا يوجد شيء اسمه مدنيون في غزّة، وقال وزير الزراعة، آفي ديختر، إن "الحملة العسكرية في غزة تهدف إلى إجبار الفلسطينيين على الرحيل القسري".

وفتح خطاب الكراهية والانتقام الذي تنتهجه الحكومة الإسرائيلية الباب أمام انتشار العنف والوحشية في صفوف جيش الاحتلال، موفرا بذلك الظروف المواتية لارتكابه أبشع الجرائم ضد المدنيين في غزّة.
ليصبح هذا الجيش نموذجاً منفرداً للوحشية من خلال الحكم بالإعدام على كل الغزّيين من خلال التدمير المطلق لمختلف ملامح الحياة في غزّة.
ولعل ما يشهد على التدمير الممنهج توسع اعتداءات الجيش الإسرائيلي منذ 8 أكتوبر (2023) إلى ما هو أبعد من "حماس"؛ حيث استهدفت الآلة التدميرية الإسرائيلية المدارس والجامعات والمستشفيات ومحطات معالجة المياه والصحافيين وعمّال الإغاثة والطواقم الطبية، ليتجاوز الدمار الذي أحدثه الجيش الإسرائيلي في غزّة بكثير ما حدث في حرب أوكرانيا والعراق.
لتعلن بذلك الوحشية المفرطة لجيش الاحتلال في فلسطين عن تشكيل ملامح الإمبراطورية المفترسة التي يعاني الفلسطينيون من دمويتها ووحشيتها منذ عقود، إمبراطورية يعتبر فيها الجيش الوحشية شجاعة.

وفيما يخص المجتمع الإسرائيلي، يتعجّب المتابع للنقاشات الداخلية للمجتمع الإسرائيلي من حجم الوحشية والأطروحات الفاشية، التي يطرحها عامة الجمهور علنا وبكل حرية، من دون أدنى حرج على مختلف الوسائل الإعلامية وفي أحاديثهم الإذاعية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، أقلّها قتل كل سكان قطاع غزّة، تحت شعار "كل سكان غزّة إرهابيون".

واعتمدت الاستراتيجية التحريضية الإسرائيلية على التوظيف الواسع لمختلف وسائل الإعلام المحلية والدولية ووسائل التواصل الاجتماعي، اقتداءً بنظرية جوزيف غوبلز لتبرير سياسة إسرائيل في إبادة سكان غزّة.
ولا تقتصر الاستراتيجية التحريضية الإسرائيلية على الغزّيين، بل تتعداهم لتشمل كل الفلسطينيين والعرب، بل وحتى كل من يندّد بما يجري في غزّة عبر العالم.

لم يمر يوم منذ 8 أكتوبر 2023، إلا ويتبيّن للجميع أن الولايات المتحدة هي الشريك الرئيسي في استباحة الدم الفلسطيني، فلولا الدعم الأميركي المتواصل لما استمرت الإمبراطورية المفترسة في الإبادة الجماعية في غزّة، فبحسب معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام (السويد) تعد الولايات المتحدة المورد الرئيسي للأسلحة إلى إسرائيل، إذ استحوذت واردات الولايات المتحدة من الأسلحة على حوالي 70% من إجمالي واردات إسرائيل من الأسلحة بين عامي 2019 و2023.
وتقدّم الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات عسكرية سنوية بقيمة 3.8 مليارات دولار. وتشمل هذه المساعدات معدّات حربية فتاكة مختلفة، جرى استعمالها في تدمير غزّة، ولا سيما قنابل MK-84 التي تزن طنّاً تقريباً، والتي ساهمت في تدمير مئات من المباني المدنية، وغالبية المرافق الخدماتية في غزّة منذ "8 أكتوبر"، مخلفة دمارا تجاوز دمار ستالينغراد.
ولا يقتصر الدعم الأميركي على المساهمة في تدمير قطاع غزّة، بل يتعداه ليشمل أيضاً العمل على تهجير أهله من خلال مقترح الرئيس دونالد ترامب الذي يهدف إلى تحويله إلى "ريفييرا" الشرق الأوسط.
 

لا يقتصر خذلان غزّة على العدو والبعيد، بل إنه شمل كذلك القريب من العرب والمسلمين، ليساهموا بذلك في استباحة الدم الفلسطيني.
ويشهد هذا الاستسلام على المشاركة في أكبر مجزرة في العصر الحديث.
والسؤال: هل استرخاص الدم الفلسطيني أو تصفية القضية الفلسطينية كانا من بنود اتفاقيات التطبيع التي صادقت عليها بعض الدول العربية عام 2020، في أثناء الولاية الأولى لدونالد ترامب أو اتفاقيات التطبيع غير المعلنة لبعض الدول العربية؟
وما سبب صمت الدول العربية الأخرى، هل لديها مشاريع تطبيع خفية مع إسرائيل، أم لديها أهداف استراتيجية مع إسرائيل وحلفائها التي تفرض عليها الصمت المطلق والاستسلام؟

لم تمنع إقامة علاقات سياسية بين الدول من وقوف هذه الدول مع القضايا العادلة والتنديد بجرائم شركائها، خير دليل على ذلك مواقف جنوب أفريقيا وأيرلندا ودول عديدة أوروبية ومن أميركا الجنوبية التي لم تمنعها علاقاتها السياسية والاقتصادية، بل والاستراتيجية مع الكيان من التنديد بجرائمه ضد الفلسطينيين، فالعيب ليس في الاتفاقيات فقط، بل في طبيعة الأداء السياسي للأنظمة العربية.

يتداخل اليوم في استباحة الدم الفلسطيني إسرائيل والعدوان البعيد والقريب، لكن التزام الصمت عندما يتعرّض الإنسان للمعاناة والإذلال، كما هي الحال في غزّة يعد مشاركة مباشرة في أكبر جريمة في القرن 21، لأن الحياد يساعد الظالم، وليس الضحية، والصمت يشجع المضطهد، وليس المضطهد.
لذا فإن صمت الشعوب العربية التي ليست في أحسن حالاتها اليوم يعد كذلك مشاركة في الإبادة الجماعية والتهجير اللذين تتعرّض لهما غزّة.