عادل صبري

كاتب وصحفي مصري

 

أشعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حربًا تجارية ضد شركائه وخصومه، لن يستطيع إطفاءها رغم تأجيله تطبيق التعرفة الجمركية المرتفعة المقررة على 180 دولة منذ أسبوعين، لمدة 90 يومًا، عقب تدهور الدولار والانهيار السريع ببورصة نيويورك الاثنين الماضي.

أراد ترامب تهدئة الأسواق، بعد أن حاصرته الخسائر في عقر داره، دون مراعاة أن “لعبة الحروب التجارية” ظلت تاريخيًا ظاهرها التجارة بينما وقودها الصراع العسكري المؤدي حتمًا إلى حرب شاملة.

فجرت تعرفة ترامب فوضى عالمية إثر تنفيذها الفوري على الواردات الصينية، بنسبة ما بين 125٪ إلى 145٪ الأمر دفع بيجين إلى الرد عليه بعنف برسوم بلغت 84٪ على الواردات، وحظر للتعامل مع شركات وتصدير المعادن النادرة للسوق الأمريكي.

أراد الرئيس الأمريكي أن يكف الأذى الذي ألحقه بأسعار الأسهم والسلع الأساسية التي صدمت مواطنيه، فأنقذ أسهم الشركات الأمريكية مؤقتا، بينما ترك جمهوره وحلفاءه بالاتحاد الأوروبي والمنطقة العربية وآسيا في فزع، وأوجد اضطرابا اقتصاديا وحالة من الضبابية بسوق العملات والذهب وسلاسل التوريد، التي تأثرت بعدم اليقين في سياساته المستقبلية وتداعيات الحرب الاستباقية التي يشنها الفيل الأمريكي على التنين الصيني.

تتعمق الأزمة لأن الصين لم تعد الشريك التجاري الأول لحلفاء واشنطن بأوروبا وآسيا والمنطقة العربية فحسب، وإنما المصنع الذي ينتج 30٪ من إجمالي الناتج العالمي، ومحتكر 90٪ من المعادن التي تحتاجها الصناعات التقنية والعسكرية المتقدمة، والسوق والمغذي الرئيسي لكافة السلع الاستهلاكية والصناعية والتكنولوجية المشغلة للاقتصاد الأمريكي، وحلفائه، وجيرانه بكندا والمكسيك. حتى روسيا المنشغلة بحرب أوكرانيا تحصل على احتياجاتها الصناعية والتكنولوجية من الصين، لتحافظ على دوران الاقتصاد وآلة الحرب.

 

من أوقد النيران لن يطفئها!

لن يتمكن ترامب من إطفاء نيران أشعلها بالأسواق، بعد أن دفعته نرجسيته الواضحة، إلى اتخاذ قرارات صادمة يلقي بها فجأة بوجه الآخرين، ليجبرهم على الهرولة إلى مكتبه بالبيت الأبيض طلبا “للتفاوض والتنازل عن مكاسب وثروات هائلة” يؤمن بأنهم “حققوها من التجارة مع واشنطن، على حساب الاقتصاد الأمريكي”.

تجاهل ترامب جهود 100 عام بذلها الآباء الأمريكيون عقب نهاية الحرب العالمية الأولى لوضع نظام عالمي – قبل هجرة عائلته من ألمانيا إلى نيويورك – لضمان حرية التجارة، وحوكمة الخلافات التجارية بما يمنع الحروب بين الدول، وانهاء الحقبة الاستعمارية، التي أججت حروب القرن 19. لم تثمر المحاولات الأمريكية، إلا بعد كارثة اقتصادية أشد وطئا، أدت إلى كساد عالمي عام 1930، انتهت بحرب عالمية ثانية، استخدمت فيها واشنطن السلاح النووي، لإعادة تشكيل العالم ووضع نظام مالي وتجاري مستقر منذ 80 عامًا تحت رعايتها والمؤسسات المالية التي أسستها كصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، لتحمي الدولار وتهيمن على الاقتصاد.

راهن ترامب على “براغماتية” الساسة التي تدفعهم إلى التفاوض مع الشركاء والخصوم، لتجنب المشاكل والرسوم الجمركية المرتفعة على دولهم، معتقدا أنهم سيأتون فرادا وجماعات تجاه أكبر دولة محركة للاقتصاد العالمي تفرض سياساتها بدعم من قوتها العسكرية والتكنولوجية غير المسبوقة تاريخيا، دون وعي بما تخلفه سياسة “الإكراه الاقتصادي” من تراجع ثقة الشعوب بأكبر دولة داعمة لحرية التجارة، ونظامها الديمقراطي الذي يفقد ريادة “العولمة” وحماية حقوق الإنسان، والأهم تجاهل ترامب للعامل النفسي للشعوب والقادة الذين يعتبرون تصرفاته بمثابة إعلان حرب شاملة.

 

الفيل في الغرفة

بضربة رأس أحدث الفيل عاصفة اقتصادية لم تهدأ، أظهرت تنمره على الشعوب بخاصة الصين، بعد أن ظل يفتخر بعلاقته الحميمية برئيسها شي جيبنبنغ، وتطابق السمات الشخصية والكيمياء الإنسانية بينهما التي “تدفعهم كقادة إلى التقارب، وتجنيب البلدين الفزع من المشاكل”.

يُظهر أول رد معلن -على غير العادة- للرئيس الصيني، الجمعة الماضية، أثناء مقابلته رئيس وزير إسبانيا بيدرو سانشيز ببيجين، مدى غضبه من التصعيد الأمريكي بقوله: لا يوجد فائزون في حرب التعرفة الجمركية، والذهاب ضد العولمة الذي سيؤدي إلى عزلة وتهميش مؤججها”، داعيا الاتحاد الأوروبي والدول إلى معارضة “أعمال التنمر أحادية الجانب” من قبل الولايات المتحدة. يدير “شي ” تحالفات ثنائية وإقليمية للالتفاف على القيود الأمريكية والحد من استخدام الدولار بالمعاملات المالية الدولية، ومواجهة الخسائر التي أحدثتها سياسات ترامب بالاقتصاد العالمي، وطمأنتهم بأن الصين قادرة على أن تصبح بديلا للواردات الأمريكية، بما تملكه من قدرات تكنولوجية وصناعية وابتكارية هائلة.

رغم العلاقات الشخصية الجيدة السابقة بين “الفيل والتنين” فإن هناك اعتبارات شخصية ونفسية عميقة أدت إلى هذا التغيير. فمن وجهة نظر الرئيس شي صاحب ” الأنا” العالية كترامب النرجسي، يرى نفسه قائدا ملهما للأمة، وأن إدارته لدولة كبرى يحكمها تعكس هويته الذاتية كقائد عظيم.

يقود “شي” أمة ذات تراث فكري وثقافي عميق، تعتبر الضغوط الأمريكية والتصريحات الفجة لترامب والعلنية بفوقية، بمثابة إهانة لكرامتها الوطنية، وليست مجرد خلافات حول “علاقات مالية واقتصادية تعرضت للتآكل. أصبح تنازل ” شي” عن تشدده بمواجهة صدمات ترامب، بمثابة خضوع شخصي، وأن قبوله التفاوض على خفض التعرفة كمن يجبر بيجين على الركوع أمام ضغوط البيت الأبيض، وليست خطوة سياسية.

 

طعنة الصديق!

طعنت الرسوم المفاجئة نفسية “شي” من صديق قديم، فدفعته إلى ردود انتقامية وعدم التراجع والخضوع للضغوط الخارجية، حتى لا يظهر زعيما مهزوما أمام الشعب والنخبة السياسية التي تبارك سياساته، بدون مناقشة.

رغم تضرر الاقتصاد الصيني قبل الأزمة وبعنف جراء تعرفة ترامب، يحصل” شي” على دعم من رجال الأعمال والمفكرين وأساتذة الجامعات الذين يرون في الرد على تصريحات ترامب الحادة ضد الصين حفظا للكرامة والهيبة الوطنية، ورفضا للأسلوب ” غير المحترم” و”البلطجة”.

لا يرد ” شي” على الرسوم الجمركية، وإنما على طريقة تعامل يمارسها “راعي البقر” الأمريكي، حملت بطياتها إيحاءات بالقدرة على الهيمنة على الآخرين وإذلالهم. من منظور نفسي نجد كراهية الصينيين للضغوط الخارجية مدفوعة بممارسات سابقة للاستعمار الغربي الذي فرض اتفاقيات تجارية مجحفة، انتهت بحرب الأفيون التي شنتها بريطانيا ضد الصين عام 1839، واحتلال هونغ كونغ ودخول 9 دول استعمارية منها: اليابان وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وهولندا وروسيا لاحتلال مناطق واسعة من البلاد، انتهت بهدم الإمبراطورية الصينية بداية القرن العشرين، مسببة الفوضى والانقسام الوطني وجرح تاريخي لم يندمل، رغم استقلال الدولة عام 1949.

يوظف ” شي”، منذ وصوله للسلطة 2012، الروح القومية، لاستعادة “الحلم الصيني” وعصر “النهضة الشاملة للأمة العظيمة”، لمحو آثار قرن “العار والإذلال” فرضها الاستعمار الغربي حينما حارب بضائع صينية متقدمة احتاجها لقرون، وعندما بدأ نهضته وعصر التصنيع الكثيف أراد فرض بضائعه بالقوة العسكرية على المجتمع وإجباره على إدخال ” الأفيون” المنزرع بالهند، وبيعه للمواطنين، بدعاوى حرية التجارة، ليغلف سياساته الاستعمارية الوحشية بأسباب اقتصادية وسياسية.

يرى الصينيون أن واشنطن تحاول إبطاء صعود التنين اليوم بنفس المنطق الاستعماري القديم، عبر الضغط السياسي والإكراه الاقتصادي وحجبها عن التكنولوجيا المتقدمة. قد نشهد تهدئة الأجواء بين الطرفين، لوقف اضطراب الأسواق بينما كعرب نتأرجح مع باقي الدول بينهما لتحقيق أقصى منفعة بأقل تكلفة، لتظل الحرب الحقيقة مؤجلة بينهما لفترة، إلى أن يشعر أي من الفيل والتنين أنه قادر على تحمل خسائرها، سيبدأ الضربة الأولي بقسوة.