بين "عبقرية المكان" و"انتقام الجغرافيا"
الجمعة 11 أبريل 2025 01:00 م
بقلم: ياسر قطيشات
خلال قراءتي لكتاب "انتقام الجغرافيا" للكاتب الأميركي روبرت دي كابلان، الصادر عام 2012، وما يحتويه من فكر جيوسياسي معاصر لأهمية فهم التاريخ والسياسة من خلال الواقع الجغرافي، استرجعت سريعاً كتاب المفكّر المصري جمال حمدان، بعنوان "شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان"، في أربعة أجزاء صدرت بين عامي 1967 و1984، وحاولت أن أبحث عن أوجه المقارنة والمقاربة بين الكتابين والفكرين، لفتح آفاق فهم كيف تعامل كلاهما مع دلالات وأبعاد الجغرافيا السياسية من منظور تاريخي وحضاري واستراتيجي.
شخصية مصر: عبقرية الجغرافيا وصناعة الهوية
يُعدّ كتاب "شخصية مصر" واحداً من أبرز الأعمال الفكرية لحمدان التي تناولت مصر، ليس كوطن جغرافي أو كيان سياسي، بل كـ"شخصية" متفرّدة تبلورت عبر آلاف السنين من التفاعل المستمر بين الإنسان والمكان والتاريخ، ويمثّل هذا العمل الضخم مشروعاً فكرياً متكاملاً يسعى إلى إعادة اكتشاف مصر من منظور علمي تحليلي يجمع بين الجغرافيا السياسية والتاريخ والسوسيولوجيا والفلسفة الحضارية.
يؤسّس حمدان رؤيته على ما يسميه "عبقرية المكان"، أيّ الخصائص الجغرافية الفريدة التي تُميّز مصر عن غيرها من الدول، فهي تقع في قلب العالم القديم عند نقطة التقاء ثلاث قارات، وتشرف على أهم الممرات البحرية والتجارية في التاريخ، مثل قناة السويس.
غير أنّ هذا الموقع، الذي منحها عبر التاريخ مركزية استراتيجية، لم يكن كافياً لتفسير خصوصيتها الحضارية، فالعنصر الحاسم في صياغة "شخصية مصر"، برأي حمدان، هو نهر النيل، الذي لعب دوراً محورياً في توحيد مصر جغرافياً وثقافياً منذ أقدم العصور، وساهم في خلق مجتمع زراعي مستقر، ذي طابع مركزي، يميل بطبعه إلى النظام والتقاليد.
يرى حمدان أنّ مصر لم تكن يوماً كياناً مغلقاً أو معزولاً، بل كانت، على الدوام، في حالة تفاعل مع محيطها الجغرافي والسياسي، ومع ذلك، فإنّ الاستمرارية التاريخية التي طبعت الشخصية المصرية جعلت منها نموذجاً للاستقرار والديمومة، رغم تعاقب الغزاة والإمبراطوريات، ويذهب إلى أنّ تاريخ مصر كلّه يمكن قراءته بوصفه "تاريخاً جغرافياً" بامتياز، حيث تتجلّى فيه العلاقة الوثيقة بين البيئة الطبيعية والبنية الاجتماعية والسياسية.
ومن خلال تحليله العميق للموقع والموارد والبنية السكانية، وسلوك الدولة والمجتمع، يقدّم حمدان تفسيراً متكاملاً لشخصية مصر، ليس كدولة فقط، بل كحضارة تتجدّد وتتفاعل مع العالم وفق قوانينها الخاصة. فهو ينتقد النماذج الأجنبية التي تحاول فرض رؤى خارجية على الواقع المصري، مؤكّداً أنّ النهضة الحقيقية لا يمكن أن تنبع إلا من الداخل، عبر فهم الذات، واستثمار الخصوصية الجغرافية والتاريخية. وبهذا المعنى، أصبح الكتاب دعوة لفكر استراتيجي مصري مستقل، يتجاوز ردود الفعل السياسية السطحية، وأسّس لرؤية طويلة المدى مبنية على فهم علمي للذات الوطنية.
انتقام الجغرافيا: ماذا تخبرنا الخرائط عن التاريخ والنزاعات؟
في كتابه "عبقرية الجغرافيا" أو كما عُرف في ترجمته العربية بـ"انتقام الجغرافيا"، يقدّم كابلان قراءة عميقة للعالم من منظور جغرافي صارم، يعيد فيه الاعتبار للقوى الجغرافية كعوامل مهيمنة في صياغة مصائر الدول، وإنتاج الصراعات، ورسم مستقبل النظام الدولي.
ويعدّ الكتابُ نقداً مباشراً للنزعات السياسية والفكرية التي أهملت تأثير البيئة والموقع في بناء السياسات، مفضّلة تفسيرات ثقافية أو أيديولوجية، وعلى العكس من هذه المقاربات، يعيد كابلان تشكيل فهمنا للتاريخ والسياسة على ضوء الخرائط حصراً.
يبدأ كابلان أطروحته من فرضية مركزية مفادها أنّ الجغرافيا ليست مجرّد خلفية للأحداث، بل هي فاعل مؤثّر، بل وربما محدّد قهري لسلوك الدول والمجتمعات، فالدول، كما يفسّر، لا تختار موقعها، لكنها تتفاعل مع قدر جغرافي يُفرض عليها منذ النشأة (الجبال، الصحارى، الأنهار، والبحار)، وهي ليست سمات صامتة، بل عناصر فاعلة تساهم في تشكيل السياسة الخارجية، وطرق التجارة ومسارات الحروب عبر التاريخ.
في هذا السياق، يعتقد كابلان أنّ الكثير من القرارات السياسية التي اتخذتها القوى الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة، فشلت لأنها تجاهلت المعطى الجغرافي، فقد كان التدخل العسكري في أفغانستان والعراق مثالاً على التعالي على الحقائق المكانية، وعلى الرغبة في "صناعة التاريخ" بمعزل عن الخريطة. وهذه الأخطاء، من وجهة نظره، لم تكن إخفاقات تكتيكية فقط، بل كانت تجاهلاً لبنية العالم الحقيقية التي لا يمكن تغييرها بسهولة.
ويذهب كابلان إلى أنّ الجغرافيا تعمل كقيد مستمر يضع حدوداً لقدرة الدول على المناورة، ويمنح في المقابل ميزات استراتيجية لمن يُحسن قراءة الخرائط، لذلك يدعو صنّاع القرار إلى دمج التحليل الجغرافي في تفكيرهم الاستراتيجي، مشدّداً على أنّ فهم طبيعة الأرض وحدود الجوار وتضاريس المواقع هو أساس الأمن القومي، وأنّ الجغرافيا ليست لعنة، ولكنها إطار ضروري للواقعية السياسية.
وتتجلّى أهمية الكتاب، بنظرنا، في العالم العربي، حيث تتداخل العوامل الجغرافية مع الأزمات السياسية المعقّدة، فالدول العربية، المُحاطة بجبال ومضائق وبحار وصحارى، تتفاعل في بيئة مكانية مركّبة تُنتج توتّرات مزمنة إذا لم تُفهم بدقة، ويعكس كابلان في هذا السياق الحاجة إلى مقاربة جيوسياسية عقلانية لتفسير صراعات الشرق الأوسط، بعيداً عن الأدلجة أو التبسيط الثقافي.
فالصراع في سورية، مثلاً، لا يمكن فصله عن موقعها كحلقة وصل بين القوى الكبرى، كما أنّ هشاشة اليمن لا تنفصل عن طبيعته الجبلية وموقعه على باب المندب، والصراعات في العراق والسودان وليبيا، لا يمكن فهمها بمعزل عن حقائق الجغرافيا المعقّدة. وعلى الدول العربية صياغة استراتيجية واقعية تأخذ في الاعتبار آليات تحويل المزايا الجغرافية (الطاقة والموارد والموقع) إلى قوّة تفاوض.
يمثلُّ كتاب "انتقام الجغرافيا" عودة إلى الواقعية الجيوسياسية، وفي جوهره دعوة للتواضع أمام "الحقائق الصلبة" للعالم، فالجغرافيا ليست انتقاماً من الحالمين، بل تحذيراً للعقلاء: "افهم الأرض التي تقف عليها، قبل أن تحاول تغيير مسار العالم"!
تحليل مقارن بين كتابي حمدان وكابلان
من حيث المنهج الفكري، يُعتبر كتاب حمدان جغرافياً حضارياً تحليلياً، يدمج بين الجغرافيا والتاريخ والثقافة والهوية، أما كتاب كابلان فهو جيوسياسي استراتيجي واقعي، يعتمد على الجغرافيا كأساس للسياسة الدولية.
وحول نظرتهما للجغرافيا، فحمدان يراها طاقة كامنة ورافعة للنهضة، إن أُحسن استثمارها، فيما يعدّها كابلان قيداً على سياسات الدول ويجب التعامل معها بحذر ودهاء. ويرى حمدان أنّ الوطن العربي قلب العالم القديم وملتقى حضارات، وذو عبقرية مكانية فريدة، أما بالنسبة لكابلان، فهو موقع حساس وسط قوى كبرى، كثير الصراعات بسبب ضعف الداخل العربي.
ومن الدروس الاستراتيجية التي يقدّمها حمدان، ضرورة فهم الجغرافيا لبناء مشروع حضاري عربي ينسجم مع البيئة والموقع، والانتقال من "الاستسلام للقدر الجغرافي" إلى "توظيف عبقرية المكان"، كما أنّ تهميش الجغرافيا يؤدي إلى الفوضى وفقدان الهوية والانهيار الحضاري.
فيما يشددّ كابلان على ضرورة اعتراف الدول بقيود الجغرافيا وتبني سياستها بناءً على الوقائع، فتجاهل الجغرافيا يؤدي إلى قرارات كارثية في السياسة الخارجية، المستقبل تحكمه الصراعات على الموارد والممرّات الاستراتيجية.
تهميش الجغرافيا يؤدي إلى الفوضى وفقدان الهوية والانهيار الحضاري
وبينما يمثّل كابلان العقلية الواقعية الغربية التي ترى في الجغرافيا أداة لإدارة الصراع والهيمنة، يقدّم حمدان نظرة حضارية إنسانية؛ ترى الجغرافيا كعامل نهضة وشخصية قومية، فإذا كان كابلان يقول: "الخرائط تُحدّدُ مصير الدول"، فإنّ حمدان يقول: "عبقرية المكان تصنع التاريخ إذا فُهمت بعمق".
ويعتبر كتاب "شخصية مصر" ذروة التفكير العربي الحديث في الجغرافيا، ويعيد الاعتبار للهوية الوطنية وإعادة اكتشاف الذات، أما "انتقام الجغرافيا" فهو تذكير قوي بأنّ الخرائط لا تكذب، ربما تتغيّر الأنظمة، وتتبدّل التحالفات، لكن الجغرافيا تظلّ ثابتة.
والدول العربية بحاجة اليوم إلى مدرسة فكرية تمزج بين الاثنين: واقعية كابلان وروح حمدان، أي استراتيجية عربية متكاملة تجمع بين الأمن والبناء الحضاري، ومنها يتحدّدُ مسار الوطن العربي، إما أن يكون أسيراً للجغرافيا، أو صانعاً لتاريخه المستقبلي.