في الوقت الذي تمضي فيه القاهرة نحو مزيد من "التحديث"، يجد آلاف المصريين أنفسهم مجبرين على استعادة ذكريات الفقد، لا لأن الأحبة عادوا، بل لأن قبورهم لم تعد آمنة.
بهذا المشهد المتكرر، باتت الجرافات الحكومية لا تكتفي بتغيير معالم المدينة، بل قلبت القلوب وحرّكت أحزاناً ظُن أنها رقدت إلى الأبد.
من المقابر إلى ملفات الورق... سباق مع الزمن
عبد الكريم العزيزي، موظف حكومي في منتصف الخمسينات، لم يكن يتوقع أن يحتاج إعلان وراثة وقيدًا عائليًا وموافقة جماعية من الورثة، لنقل رفات ابنته المتوفاة قبل ثلاث سنوات.
يقول والعبرة تخنق صوته: "في نفس اليوم الذي اشتريت فيه فستان زفاف ابنتي الكبرى، كنت أشتري كفناً جديداً لأختها الراحلة. دفنتها مرتين، وفي المرتين نزفنا ذات الألم، لكن هذه المرة كان أكثر وجعاً... وكأن الجرح انفتح من جديد."
انتهى من الإجراءات قبل يوم من انقضاء المهلة، لكن الأسرة لم تنعم بفرحتها. تحول الفرح المنتظر إلى وقوف على قبر مفتوح، ووداع جديد لجثمان صغير لم يزل في الذاكرة حيًّا.
أشباح الرحيل في أحلام الأحياء
طارق حربي، فقد شقيقه منذ سنوات، ولم يكن يعلم أن عليه خوض رحلة أخرى أكثر غموضاً لإعادة دفنه. المقبرة الخيرية التي احتضنت الجثمان كانت جماعية، والتمييز بين الجثث مهمة مستحيلة.
"بحثت عن موضع دفنه، لم أجد. حملت جثة حسب ظني، ودفنتها. لكن شقيقي جاءني في المنام، يشير إلى مكانه الحقيقي، وكأنه يصرخ: أنا هنا!"
طارق لجأ للمشايخ، تنقّل بين فتاوى تُبرّر، وأخرى تُخالف، وبقي في حيرة... أيّهما دفن؟ وأيّهما ترك تحت التراب؟
قبور للبيع.. وأسعار بالمزاد العاطفي
في مناطق مثل البساتين والإمام الشافعي، بدأت عمليات ترقيم للمقابر، تمهيداً لهدمها. مقبرة الشاعر محمود سامي البارودي لم تسلم، ما زاد من ارتباك الأهالي.
المقتدرون سارعوا لشراء مدافن، لكن الأسعار تضاعفت بشكل جنوني. البعض حصل على مقابر في "العاشر من رمضان"، منطقة بعيدة لا تحمل سوى الأرقام، دون ملامح أو روح.
"تكريم الميت دفنه"، مقولة طالما تمسك بها المصريون، ممن بَنوا الأهرامات وقبور الملوك منذ آلاف السنين. لكن التكريم الآن، بات مقرونًا بالقدرة المالية، والزمن المتاح، ومهارة التنقل في دهاليز البيروقراطية.
حين يتحول الحزن إلى وجع متجدد
أميرة، فقدت ابنتها منذ سنوات. وقفت تبكي أمام قبر العائلة وهي تستعد لنقل الرفات.
"كل خطوة كانت تعيد إليّ الوجع، المكان الجديد بارد، لحود بلا ذاكرة، ولا دفء. لا يشبه قبر ابنتي القديم، حيث كنا نأتي في الأعياد ونحكي لها ما لم نقله في الحياة."
سلوى، دفنت والدها في مقبرة السيدة نفيسة، لكنها اليوم لا تعرف له موضعاً.
"فقدت ليس فقط والدي، بل الرابط الروحي معه. لا أستطيع زيارته، لا أعلم أين يرقد الآن. كيف تقتل القرارات الإدارية تلك الصِلات الخفية بين الأحياء والأموات؟"
إيمان وجدت نفسها تنقل رفات خمسة أجيال من عائلتها في أكياس من القماش.
"كأنني أحمل تاريخنا كله... لكني لا أعرف إلى أين. في المدفن الجديد لا يوجد شيء من الماضي. مجرد حفرة... وبكاء يتكرر."
جنازة ثانية... ولا عزاء
أحمد، لم يشهد جنازة والده الأولى قبل 44 عاماً، لكنه حضر "جنازته الثانية".
"كنت في التاسعة حين مات أبي، لكن حين فُتح قبره، شعرت أنني أفقده للمرة الأولى. الرفات كانت هناك، لكن الذاكرة والألم حاضران أكثر من أي وقت مضى."