يعتبر الفساد في المغرب ظاهرة بنيوية معقدة تتشابك فيها المصالح السياسية والاقتصادية، مما يجعله ليس مجرد سلوك فردي منحرف، بل آلية لضبط المجتمع وترسيخ السلطوية.
في هذا التحقيق الاستقصائي، نرصد أبعاد هذه الظاهرة، ونستعرض آراء الخبراء والفاعلين السياسيين حول أسباب تفشيها، وتأثيرها على الثقة في المؤسسات، ومدى جدية الإصلاحات المعلنة لمكافحتها.
التطبيع مع الفساد.. من المسؤول؟
في ندوة حزبية حول "مبادرات لمحاربة الفساد"، أجمع المشاركون على أن المجتمع المغربي بات في حالة "تطبيع قسري" مع الفساد، حيث أصبح الفساد جزءًا من المنظومة اليومية، وسط ضعف آليات الرقابة والمساءلة.
محمد الغلوسي، رئيس "الجمعية المغربية لحماية المال العام"، يرى أن الفساد ليس مجرد انحراف فردي، بل هو بنية مؤسسية تُستخدم لضبط المجتمع وتعزيز النفوذ السلطوي.
وأكد الغلوسي أن غياب الديمقراطية وضعف آليات المحاسبة يعمقان هذه الظاهرة، مما يسمح للنخب النافذة بالحفاظ على مصالحها على حساب التنمية والإصلاح.
المنظومة الحزبية.. جزء من المشكلة؟
فاطمة الزهراء التامني، النائبة البرلمانية عن حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، ترى أن الفساد أدى إلى تكريس سياسة الإفلات من العقاب وتعطيل المؤسسات، مما يهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي.
وتعتبر أن غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد يعد العائق الأكبر أمام أي إصلاح حقيقي.
رشيد لزرق، رئيس مركز شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث، يشير إلى أن الأحزاب السياسية تستغل قضية الفساد كشعار انتخابي دون تنفيذ إصلاحات فعلية، مؤكدًا أن المنظومة الحزبية ذاتها تستفيد من الفساد، مما يمنحه حصانة سياسية تحول دون مكافحته بجدية.
الفساد والاقتصاد.. تأثيرات كارثية
الخبير الاقتصادي عز الدين أقصبي، عضو منظمة "ترانسبرانسي المغرب"، يؤكد أن الفساد أصبح بنيويًا في المغرب، حيث يمس قطاعات حيوية مثل القضاء والصحة والأمن.
ويشير إلى أن ضعف القوانين وعدم تفعيلها يعزز الإفلات من العقاب، مما يجعل الفساد وسيلة لضبط السلطة، خاصة في ظل اقتصاد ريعي يرسّخ هيمنة النخب النافذة.
ويضيف أقصبي أن المؤسسات الرقابية تفتقر إلى الاستقلالية، والمحاكم غير فعالة، والصفقات العمومية تفتقر إلى الشفافية، مما يجعل الإصلاحات شكلية وغير قادرة على إحداث تغيير حقيقي.
الحكومة المغربية.. بين الدفاع والاتهام
في المقابل، تدافع الحكومة المغربية عن جهودها في مكافحة الفساد من خلال الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد (2016-2025)، التي بلغت نسبة تحقيق أهدافها 76٪ حتى بداية العام الجاري.
ويؤكد الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، أن هناك تقدمًا في تعزيز الشفافية والحكامة الجيدة، مشيرًا إلى تبني إجراءات مثل ميثاق المرافق العمومية، قانون تبسيط المساطر الإدارية، ومرسوم الصفقات العمومية.
كما تعتبر الحكومة أن التحول الرقمي يعد أحد الركائز الأساسية في مكافحة الفساد، حيث تعمل على رقمنة الخدمات العمومية لتعزيز الشفافية والحد من الاستغلال غير المشروع للمال العام.
هل هناك أمل في الإصلاح؟
يرى أستاذ العلوم السياسية عبد الرحيم العلام، أن الفساد يمثل "ثقبًا أسود" يستنزف ميزانيات ضخمة ويحرم البلاد من فرص استثمارية هامة.
ويؤكد أن المجتمع المغربي لا يطبع مع الفساد بمحض إرادته، بل يضطر إلى التعامل معه نتيجة غياب البدائل وضعف آليات المحاسبة.
ويشدد العلام على أن مكافحة الفساد تتطلب إجراءات ملموسة، مثل تشديد العقوبات على المفسدين، وتعزيز دعم الجمعيات الحقوقية، وتشجيع المواطنين على التبليغ عن الفساد.
كما يرى أن التربية المجتمعية تلعب دورًا أساسيًا في تعزيز ثقافة النزاهة، عبر إدراج قيم الشفافية والمسؤولية في المناهج الدراسية.