تُقدم الفعاليات الدبلوماسية نفسها على أنها منصات للحوار المفتوح، حيث تُمنح أصوات الشباب دورًا بارزًا في تشكيل مستقبل حل النزاعات. وقد ازداد الاهتمام بإشراك الشباب في القنوات الدبلوماسية، خاصة بعد إصدار الأمين العام للأمم المتحدة لموجز سياساته بعنوان "أجندتنا المشتركة"، الذي دعا إلى توسيع أدوار الشباب في جميع مستويات الحكم وإدماجهم في عمليات صنع القرار الأممية.
لكن وراء هذا الخطاب المتفائل، تُدار هذه المساحات بطرق دقيقة لضمان التوصل إلى إجماع محدد مسبقًا. فالشباب الذين يتم اختيارهم للمشاركة لا يتم انتقاؤهم لتنوع أفكارهم، بل بسبب استعدادهم لتبني أجندة التطبيع المرسومة بعناية. أما أولئك الذين يرفضون الانصياع لهذه الرؤية، فيتم استبعادهم أو إسكاتهم تمامًا.
في هذه المنتديات، يتم إبراز الشباب الفلسطينيين الذين يُظهرون مرونة فيما يتعلق بمفهوم الدولة، ويتم تقديم تطلعاتهم من منظور الحقوق المتساوية بدلًا من السيادة الوطنية. الهدف من ذلك واضح: الإيحاء بأن الجيل الجديد عملي وغير معني بالبُنى السياسية التقليدية، بل مستعد لتجاوز صراعات الأجيال السابقة. في المقابل، يتم تصوير الجيل الأكبر الذي لا يزال متمسكًا بحل الدولتين على أنه قديم ومتجمد في نماذج سياسية لم يعد لها مكان في العصر الحديث.
لكن في الاجتماعات الدبلوماسية المغلقة والمنتديات الجامعية، يعترف الدبلوماسيون أنفسهم بأن هذا الخطاب يحتاج إلى إعادة صياغة ليصبح أكثر قبولًا. فالحديث عن حل الدولتين لم يعد فعالًا كما كان في السابق، ويحتاج إلى استبداله بسردية أخرى. ومع ذلك، لا يُسمح لهذا التحول بأن يظهر كنتيجة لضغوط خارجية، بل يُقدم على أنه تعبير عن إرادة الشباب الفلسطينيين أنفسهم، في حين أن الواقع هو عكس ذلك تمامًا.
التلاعب بالأصوات الفلسطينية
المسألة لا تتوقف عند الفعاليات الدبلوماسية، بل تمتد إلى منصات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم إسكات الأصوات المعارضة للتطبيع بشكل ممنهج.
مثال على ذلك ما حدث مع الناشط الفلسطيني الأمريكي صبحي طه، الذي حذفت ميتا صفحته على إنستاجرام، مما أدى إلى اختفاء صوته، رغم امتلاكه أكثر من مليون متابع.
هذا القمع لا يستهدف الأفراد فقط، بل يمتد إلى التعبيرات الثقافية الفلسطينية أيضًا. فمثلاً، فيلم "لا أرض أخرى"، الذي رُوج له في البداية كعمل فلسطيني يعكس معاناة الفلسطينيين، وأعيد تأطيره خلال حفل الأوسكار ليُقدَّم كـ"تعاون فلسطيني إسرائيلي".
هذه الخطوة كانت مدروسة بعناية لطمس الهوية السياسية الفلسطينية وتحويلها إلى قصة إنسانية عامة تتماشى مع جهود التطبيع الجارية، خاصة في ظل مفاوضات وقف إطلاق النار.
الأمر نفسه يتكرر في الجامعات، حيث يتم قمع أي جهود شبابية مناهضة للتطبيع. في جامعات مثل هارفارد وكولومبيا، تعرض الطلاب الذين دعوا إلى دعم السيادة الفلسطينية لحملات تشويه وملاحقة، وصلت إلى حد فضح معلوماتهم الشخصية ومنعهم من التخرج.
في المقابل، تتم رعاية البرامج التي تدعو إلى "الحوار والتعايش" وتحصل على تمويل ودعم مؤسسي، لأنها تتوافق مع الخطاب المعتمد مسبقًا.
القوانين والتشريعات كأداة للقمع
لا يقتصر القمع على الفعاليات الدبلوماسية والمؤسسات الأكاديمية، بل يمتد إلى القوانين التي تُسنّ خصيصًا لكبح أي مقاومة حقيقية للتطبيع.
حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي يقودها الشباب تُعتبر من أكبر العقبات أمام مسار التطبيع، ولذلك يتم استهدافها قانونيًا. في المملكة المتحدة، قُدم مشروع قانون يحظر على المجالس المحلية والجامعات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، مما يشكل هجومًا مباشرًا على النشاط الطلابي السياسي.
صناعة الوهم
ما يتبقى بعد كل هذا هو نظام دبلوماسي مصمم ليبدو وكأنه يُشرك الشباب في عمليات صنع القرار، لكنه في الحقيقة يستخدمهم كأدوات لإضفاء الشرعية على نتائج سياسية محددة سلفًا.
الرسالة التي يتم تمريرها بذكاء هي أن التطبيع ليس مفروضًا، بل هو خيار تبناه الشباب الفلسطينيون بأنفسهم؛ لكن نظرة أعمق إلى ما يجري خلف الكواليس تكشف أن من يرفض الانصياع لهذا الدور يتم تهميشه أو محوه تمامًا من المشهد.
التطبيع لا يحدث بشكل طبيعي؛ إنه يُصنَّع. والشباب الذين يرفضون الانخراط فيه يثبتون بوضوح مدى أهمية أصواتهم في هذا الصراع