يشهد العالم تغيرات سريعة، حيث ينهار النظام القائم على القواعد، ويزداد انعدام الأمن، وتعود القوى الكبرى للتنافس المباشر. بالنسبة للعالم العربي، يمثل هذا تحديات صعبة لضمان مستقبله، خاصة مع تراجع الولايات المتحدة عن دورها العالمي، كما ظهر في سياسة "أمريكا أولًا" التي انتهجها الرئيس دونالد ترامب. 

 رأينا ذلك مع أوكرانيا، حيث تفاوضت واشنطن مع روسيا دون إشراك كييف أو حلفائها الأوروبيين، ما يشير إلى تحول جوهري في طريقة تعامل أمريكا مع الأمن الدولي، وهو ما ستكون له تداعيات خطيرة على الشرق الأوسط.

لعقود، اعتمدت الدول العربية على القوة الأمريكية للحفاظ على الأمن، لكن إدارة ترامب أظهرت أنها لا تتردد في التخلي عن حلفائها، بل وتطالبهم بالدفع مقابل أي دعم أمني. تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها الأمنية يجعل الدول العربية أمام خيار حاسم: إما إنشاء نظام أمني قادر على مواجهة التوسع الإسرائيلي المستمر، أو مشاهدة تحقيق "إسرائيل الكبرى" دون رادع.

إذا كانت الدول العربية تضع مصالح شعوبها في المقدمة، فستدرك أن الصهيونية تمثل تهديدًا أكبر من روسيا على أوروبا الغربية. إسرائيل لم تكتفِ باحتلال فلسطين، بل وسّعت سيطرتها عبر الإبادة الجماعية في غزة، واستمرار الاحتلال والتهجير القسري في الضفة الغربية، وضم الجولان، والتحركات العسكرية في جنوب لبنان وسوريا.

 

لا يمكن تجاهل التوسع الإسرائيلي بعد الآن

منذ تأسيسها عام 1948، تصرفت إسرائيل ككيان لا يشعر بالأمان إلا من خلال إذلال المنطقة بالكامل. وبدعم مطلق من حلفائها، تم تمكينها أكثر. بينما تدين الدول الغربية التوسع الروسي في أوكرانيا وترسل مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية لمواجهته، فإنها في تناقض صارخ تدعم التوسع الإسرائيلي، وتحميه من أي مساءلة.

جربت الدول العربية استراتيجيات دبلوماسية مختلفة، مثل مبادرة السلام العربية عام 2002، واتفاقيات السلام بين مصر والأردن وإسرائيل، وأخيرًا اتفاقيات "أبراهام" التي بدأت عام 2020 بتطبيع العلاقات مع الإمارات. كان الأمل أن يؤدي الاعتراف بإسرائيل إلى تخفيف عدوانها، لكن العكس حدث، حيث تصاعدت الاستيطان والعمليات العسكرية الإسرائيلية.

 

الفرصة لإعادة النظر في مواجهة التوسع الإسرائيلي

قمة جامعة الدول العربية الأخيرة كانت فرصة لمناقشة هذا التحدي، لكن الردود العربية على توسع إسرائيل كانت دائمًا متفرقة وغير منسقة، وأحيانًا متواطئة. الاعتقاد بأن الدبلوماسية ستحُدّ من طموحات إسرائيل لم تدعمه الوقائع، بل إن التطبيع عزز قدرة إسرائيل على التصرف دون عواقب.

مع انهيار النظام الدولي القائم على القواعد وعودة الصراعات التقليدية، يجب أن تواجه دول المنطقة هذا التحدي مباشرة. تخلي ترامب عن ضمان أمن أوكرانيا دون "مقابل" يشير إلى أن واشنطن لم تعد ترى في التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا والشرق الأوسط أولوية. كما أن الدول الأوروبية بدأت تعيد النظر في استراتيجياتها الدفاعية بعيدًا عن الاعتماد على أمريكا، وهو ما يجب أن تفعله الدول العربية أيضًا.

 

نظام أمني إقليمي مستقل

كان الاعتماد على القوة الأمريكية دائمًا في خدمة إسرائيل، وهو نظام كان لا بد أن ينهار في النهاية. يجب على الدول العربية إدراك أن إسرائيل ليست شريكًا للاستقرار، بل هي مصدر دائم للاضطراب. التعامل مع طموحاتها يتطلب بناء بيئة أمنية إقليمية جديدة، حيث تملك الدول العربية قوة جماعية قادرة على موازنة النفوذ العسكري والسياسي الإسرائيلي.

يتطلب ذلك إنشاء إطار أمني يضع الأمن الجماعي فوق مصالح الدول الفردية، تمامًا كما فعلت أوروبا في مواجهة العدوان الروسي. يشمل ذلك التعاون العسكري، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتشكيل تحالفات دفاعية تحقق المصالح المشتركة. لا يمكن للشرق الأوسط أن يسمح لإسرائيل بإعادة رسم الحدود بالقوة. يجب أن يكون الرد العربي على "إسرائيل الكبرى" بناء نظام أمني إقليمي قادر على كبح طموحاتها التوسعية.

وبدلاً من الاعتماد على الوساطة الأمريكية، التي أثبتت مرارًا فشلها، يجب على الدول العربية إقامة شراكات استراتيجية تخدم احتياجاتها الأمنية الفعلية. يمكن للقوى الناشئة، مثل دول الخليج اقتصاديًا وتركيا عسكريًا، أن يكون لها دور في موازنة النفوذ الإسرائيلي. كما سيمكن التحرر من الهيمنة الأمريكية العرب من تطوير علاقات تعزز الأمن الإقليمي وتخدم شعوبهم، بدلًا من أن يكونوا أسرى لأنظمة لم تفعل سوى تمكين إسرائيل من فرض سيطرتها الإقليمية.

 

التحرك الجماعي ضرورة استراتيجية

أدى غياب التحرك العربي المشترك في الماضي إلى ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي وتوسيع حدوده. تعتمد عقيدة الأمن الإسرائيلية على الهيمنة، وليس التعايش. ما لم يتم التصدي لهذه الحقيقة، ستظل المنطقة تدفع الثمن الجيوسياسي والإنساني للطموحات الإسرائيلية المتطرفة. إذا كانت إسرائيل ترى في الوضع العالمي الحالي فرصة تاريخية لترسيخ سيطرتها دون قيود أمريكية أو دولية، فعلى الدول العربية أن تعي مسؤوليتها التاريخية في التصدي لذلك، وإثبات استقلالها، والدفاع عن مصالحها الجماعية.

لن يتحدد مستقبل الشرق الأوسط في واشنطن، بل في قرارات القادة العرب أنفسهم. عليهم أن يدركوا أن أمنهم لن يأتي من الوعود الغربية، أو من الاستجابة لمطالب إسرائيل الأمنية التي لا تنتهي، بل من إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وضمان حقوق الفلسطينيين المشروعة، وتحقيق الاستقرار الحقيقي القائم على العدالة، وليس على الإملاءات الخارجية.

https://www.middleeastmonitor.com/20250305-a-new-security-order-the-arab-worlds-opportunity-to-challenge-greater-israel/