أحمد بن راشد بن سعيّد
أستاذ جامعي سعودي
كتب أخونا الأستاذ جمال سلطان منشورًا بعنوان: "لماذا رحبت السعودية بأحمد الشرع ولم ترحب بمحمد مرسي؟". وفي هذا المقال مناقشة لأخينا الكريم في نقاطٍ مهمّة رأيت من واجبي إيضاحها، لاسيما أنّ كثيرًا منها يردّدها قومٌ آخرون، وليست مقصورةً على الأخ جمال وحده.
في البدء، توحي صياغة السؤال الذي طرحه الأخ والزميل سلطان بأن السياسة السعودية ذات قواعد ثابتة، وأن لها رؤية إستراتيجية مؤسّسة تحدّد خياراتها، وهذا غير دقيق، فربما تغيّرت المواقف بتغيّر القيادات. ليس في البلاد برلمان ولا فصل سلطات ولا نظام ضوابط وتوازنات. وبهذا، فإن مقارنة موقفها من مرسي بموقفها من الشرع من دون أخذ هذا الأمر في الاعتبار يُفقد المقارنة صدقيّتها.
الحقيقة أن السعودية لم تكن مرتاحة لتقدّم الثوّار السوريين، وظلت دعايتها تصفهم وهم يحرّرون المدن السورية، بالفصائل المسلّحة، بينما تشير إلى عصابات السّفّاح بالجيش السوري، امتدادًا للتحوّل السلبي الحاد الذي طرأ على السياسة السعودية تجاه الثورة السورية، عام 2017، والذي ختمتْه باستقبال السّفّاح في الرياض، وإعادته إلى الجامعة العربية. تجلّى ذلك في التناول الإخباري لقناة العربية التي دأبت، إبّان زحف الثوار على حلب وحمص وحماة، على استضافة أبواق السّفّاح، ليصِمُوا الثوّار وهيئة تحرير الشام بالإرهاب. ولا ننسى أنه قبل أسابيع فقط من فتح دمشق بثّت قناة mbc تقريرًا وصفت فيه الشرع بأنه "وجه عالمي للإرهاب"، "قاد الخراب والدمار في سوريا". حتى بعد التحرير، استمرّ كتّاب "رسميون" في التحذير من الشرع بوصفه إرهابيًا، أو سليل تاريخ إرهابي. كل ذلك يفنّد ما ذهب إليه أخونا جمال سلطان بشأن الترحيب السعودي الفوري بنجاحات الثورة. أما استنتاجه أن موقف المملكة من النظام السوري الجديد مؤشّر على “احتضانها” له، و “ثقتها” به، و “دعمه" في قابل الأيام، بل “إلقاء ثقلها” خلف الرئيس أحمد الشرع، وتقديم العون الاقتصادي والسياسي له، والسعي إلى “توسيع القبول الدولي بشرعيته”، فهو مجرّد آمال ورديّة كان ينبغي التريّث مليًّا قبل الجزم بحدوثها.
غير أنّ أشدَّ ما كتبه سلطان ظلمًا قوله إن إيران والكيان الصهيوني والإخوان المسلمين هم القوى التي ضاقت ذرعًا بالعلاقة السورية السعودية الجديدة. ولا أدري لماذا حشر، هداه الله، الإخوان في الموقف المعادي لهذه العلاقة. الإخوان كلهم، كما أشار، مرتابون متوجسون، لكن إخوان مصر هم الأشدّ توترًا، بحسب تعبيره، لأنهم يحملون "ضغينة خاصّة تجاه المملكة بسبب موقفها الرافض لسلطة الرئيس محمد مرسي، ويتهمونها بالعمل على إسقاطه، ومساعدة القائد العسكري عبد الفتاح السيسي".
لم يُوفَّق الأخ الكريم في استخدام تعبير "ضغينة"، الذي يعني الحقد الشديد بلا سبب، والمشوبَ عادةً بالحسد، وهو تعبير ينطوي على تشويه وإساءة كان ينبغي تجنّبه. ولو أنه قال مثلًا: "لأنهم أخذوا على المملكة رفضها سلطة الرئيس مرسي"، لكان أخفَّ وطأة، مع أن المملكة لم تقف عند "رفض" تلك السلطة، بل حاربتها دعائيًا منذ البداية (كنت في الرياض وقتَها، وشاهدت الحشد العاطفي ضدّ الثورة، وضدّ مشاركة الإخوان في الانتخابات، كما لمست الصدمة من نتائجها)، وشاركتْ في تدبير الانقلاب عليها، وهي سلطة أبعد من أن تكون متعلّقة بشخص أو برنامج، فقد كانت تمثّل التجربة الديموقراطية الوليدة في مصر. ثمّ إنّ القناعة بدور المملكة في الانقلاب معلومة بالضرورة، وليست مقصورةً على الإخوان. وكنت قد استمعت إلى متحدّث أميركي في مؤتمر بإسطنبول عام 2016 يعترض على تحميل أميركا مسؤولية الانقلاب قائلًا: “لقد دُبِّر الأمر في الرياض، وأتى المال من الرياض”.
هذه المشاركة المفتاحية في الانقلاب وما أسفر عنه من فظاعات وآلام، شكّك فيها الكاتب بقوله إنها مجرّد تهمة ألصقها الإخوان بالمملكة، وهذا شيء عجيب، إذ إن المملكة لم تنكر دورها في الإطاحة بمرسي، ودعم الخروج عليه، وجهر كثير من كتّابها ومعلّقيها بهذا الدور في الصحافة وفي المنصّات الاجتماعية، إجهاضًا لما لقّبوه بالربيع الإخواني ـ الأوبامي، وتخليصًا للمنطقة من بعبع "الإسلام السياسي". هذا الربيع الذي قرّرت المملكة الاعتراف بأحد قادته، أحمد الشرع، والتعامل الإيجابي مع أطول ثوراته وأشدّها دموية.
يعزو سلطان الترحيب السعودي بالشرع إلى "رهان السعودية على وحدة سوريا، وإحياء مفهوم الدولة، وإحياء دور سوريا العربية السنّيّة في حماية الأمن القومي العربي". حسنًا، كيف يستقيم ذلك مع التعاطف الذي تبديه السعودية مع ميليشيا "قسد" الانفصالية المعادية للإسلام، وليس لأهل السّنّة فقط؟ شواهد ذلك في الماضي كثيرة. وفي أعقاب انتصار الثورة، أجرت قناة العربية مقابلاتٍ عدّة مع مظلوم عبدي، قائد تلك الميليشيا، متبنّيةً دعاياته ضدّ الحكومة التركية، بما في ذلك مزاعمه عن احتلالها أراضيَ سورية، وطمعها في المزيد، ودعوته إلى حذف كلمة “العربية” من اسم الجمهورية العربية السورية، وتأييده وجود قوات احتلالية أميركية في البلاد. كما التقت جريدة الشرق الأوسط بعبدي، متناولةً مطالبه باهتمام. غنيٌّ عن القول إن “قسد" تنظيم كاره للعرب والإسلام، يقمع المجتمعات العربية بوحشية، ويُجبرهم على القتال في صفوفه، ويفرض عليهم الفكر الشيوعي في التعليم، فأيّ إحياء لمفهوم الدولة، وأي نصرٍ للسّنّة، في احتضان هذه الميليشيا؟
أعاد سلطان القول إن جماعة الإخوان المسلمين "لا تغفر للمملكة أنها عملت على إسقاط تجربة محمد مرسي، وإنهاء مشروع الإخوان بالكامل في المنطقة تقريبًا بعد انهياره في مصر"، وهو هنا يؤكد القصّة، ولا يعدّها "تهمة" إخوانية، كما زعم قبل قليل. لكنه يأتي بزعم آخر مؤدّاه أن نقدًا كثيرًا صدر عن "رموز إخوانية" لاحتفاء المملكة الواسع بالرئيس الشرع، متسائلًا: لماذا قبلت بالشرع ولم تقبل بمرسي؟ وهو تساؤل يحمل افتراضًا مسبقًا غير دقيق، إذ ثمّة بعض أوجه الشبه بين الاحتفاء بالرئيسين، فقد احتفت السعودية بمرسي بقدرٍ لا يقلّ عن احتفائها بالشرع، وهو ما نشرته قناة العربية آنذاك في موقعها، قائلةً إن "السعودية استقبلت بحفاوة بالغة أول رئيس مصري منتخب بعد ثورة 25 يناير في مدينة جدة، وكان ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز في مقدّمة" مستقبليه، مضيفةً أن الزيارة تأتي بعد ثلاثة أسابيع على انتخابه، وهي رسالة تأكيد لقوة العلاقات السعودية-المصرية. وبعد استقبال الملك عبد الله للرئيس مرسي، صرّح الرئيس قائلًا إنه “وجد في خادم الحرمين الحكمة والمعرفة والحب لمصر". كما استقبل الرئيس في مقر إقامته بجدّة الأمير سلمان الذي اقترح “تكثيف الزيارات المتبادلة بين المسؤولين ورجال الأعمال في البلدين"، من أجل “دعم الاستثمار”، بحسب القناة التي أشادت بتصريح لمرسي أكّد فيه أن “أمن الخليج خطٌّ أحمر” (13 يوليو 2012).
وأدّى مرسي والوفد المرافق له العمرة بحراسة رسمية، وأودعت المملكة نحو ثلاثة بلايين دولار (2,900) في البنك المركزي المصري لم يأخذ الرئيس مرسي منها شيئًا، بحسب السفير السعودي في مصر آنذاك، أحمد قطّان، الذي اعترف بأن ذلك المبلغ الكبير “خلّص عليه حازم الببلاوي (أول رئيس وزراء بعد الانقلاب) في لحظات” (روتانا خليجية، 2 مارس 2021). ونسبت جريدة الأهرام إلى الأمير سلمان قوله إن “بلاده تساند الحاكم الشرعي في مصر أيًّا كان” و “يجب إعطاء الرئيس محمد مرسي فرصة كاملة في الحكم" (10 إبريل 2013، وقد تجاهل “الإعلام السعودي” هذا التصريح عدا جريدة الرياض). هذه المواقف تدحض ما ذهب إليه سلطان من تقليلٍ لاحتفاء المملكة بمرسي، بغض النظر عن حقيقته ودوافعه.
يشير سلطان إلى أن الشرع أفضل من مرسي في عيون السعودية، لأنه "صاحب مشروع لإنهاء نفوذ إيران في الشام كله، وقطع دابرها بصورة حاسمة، وهذا يخدم الأمن القومي للخليج العربي بكامله، وفي القلب منه المملكة، بينما مشروع الإخوان في مصر كان ودودًا.. مع النفوذ الإيراني في المنطقة، "بل ومدافعًا عنه، وهذا ما أفزع المملكة وعواصم خليجية". وفي هذا الكلام من التشويه وتزييف الحقائق ما يتعيّنُ بيانُه، ويحرُمُ شرعًا كتمانُه. لقد كان أحمد الشرع إرهابيًا في نظر الحكومة السعودية على مدى سنوات، فكيف أصبح بين عشيّةٍ وضحاها سيفًا مُشهَرًا على إيران؟ وهل كانت السعودية تعمل جادّةً على دحر العدوان الإيراني في الشام؟ الحقيقة أنها لم تكن لديها رؤية إستراتيجية للتعامل مع الثورة السورية، لأنها وهي تتوجس من الدور الإيراني، كانت تَعدُّ الثورة جزءًا من الربيع العربي، فدخلت المشهد السوري ولم تخرج بشيء. إنَّ حشد الطاقات في مواجهة عدوٍّ محدّد يسهّل الطريق إلى هزيمته، بعكس ما يحدث عند مواجهة خصوم كثيرين، بعضهم مصطنع أو متخيَّل.
لقد نجحت المملكة في الإطاحة بمرسي في سنة، بينما بقي سفّاح الشام سنين طوالًا لم تزحزحه عن مكانه، ولو بذلت لإسقاطه عُشرَ ما بذلته لإسقاط مرسي لهوى في بواكير الثورة. ثم من أين أتى سلطان بالزعم أن “مشروع الإخوان” (هل ثمّةَ مشروع أصلًا؟ وما ملامحه؟ الهدف من وراء هذا المصطلح الإيحاء بأن لدى الإخوان مشروعًا غير وطني، عابرًا للحدود، ومهدِّدًا للنظام الإقليمي) مدافع عن النفوذ الإيراني؟ فِرْيَةٌ لا دليل عنده عليها، ولا مصدرَ لها إلا الدعاية السعودية التي ما فتئت تضخّها تشويهًا للرئيس مرسي ومرجعيته.
إنّ أخانا جمال سلطان يدرك أنّ جماعة الإخوان المسلمين ليست مذهبًا فقهيًا ولا طائفة دينية لها أصول مكتوبة مقعّدة يُحاكَمون إليها، ويحاسبون عليها، بل هي دعوة تمثّل الإسلام الرحب الغني الجميل، ومدرسة شاملة يلتقي أبناؤها من أهل السّنّة والجماعة على خطوط عريضة وقواسمَ مشتركة، وتتنوّع فيها مساحات الرأي والاجتهاد، ومن ثَمَّ فلا يمكن إطلاق حكم عام على أطيافها كافّة. لنفترض مثلًا أنّ الإخوان، كما تخبرنا الدعاية، ميّالون إلى إيران، ماذا سيقول الأخ جمال عن الإخوان في سوريا الذين قدّموا أعظم التضحيات في التاريخ العربي الحديث في مواجهة العصابة الطائفية الباطنية الموالية لإيران التي حكمت الشام بالحديد والنار على مدى نصف قرن، تزيد ولا تنقص؟ هل هؤلاء مدافعون عن النفوذ إلايراني؟ كان الإخوان أكثر من أُوذي وعُذّب وقُتّل في سوريا (حماة كانت فقط أوضح النماذج)، حتى إنه صدر قرار في مطلع الثمانينيات بإعدام كلّ من ينتمي إليهم. وفرحُهم بسقوط العصابة الباطنية لا يُقارَن في شدّته بفرح غيرهم، وقد عبّروا عن ذلك بجلاء. أمّا جماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر، فربما كانت أوّل من بارك للشعب السوري بفتح دمشق، حيث هنّأتْه في 8 ديسمبر 2024، “بسقوط النظام الغادر الذي ولغ في الدماء، وقتّل الأبرياء، وأمعن في تدمير سوريا وتشريد أبنائها واعتقال مخلصيها وشرفائها على مدار أكثر من خمسين عامًا".
لكن لنعُدْ إلى الرئيس مرسي وأدائه في تلك السنة التي كان فيها رئيسًا لمصر. ما مظاهر انحيازه إلى إيران؟ ما دلائل دفاعه عن نفوذها؟ هل كان استهلاله رئاستَه بزيارة السعودية، التي كانت ترى إيران عدوّها الأول، مجاملةً للنفوذ الإيراني؟ هل كان تصريحه قُبيل زيارتها أن “السعودية ترعى مذهب أهل السّنّة والجماعة، ومصر تحميه”، وأن البلدين يمثّلان “الإسلام السّنّي الوسطي”، وأنّ “السعوديين قيادةً وشعبًا كانوا دائمًا في حضن مصر، وكانت مصر في أعينهم، وكانوا مع مصر أوفياء” (العربية نت، 13 يوليو 2012) تأييدًا لإيران؟ هل كان حضوره مؤتمر قمّة عدم الانحياز في طهران، وصدعُه في عُقر دار الصفويين بالترضّي على أبي بكر وعمر وعثمان، ووصفُه حينَذاك سفّاحَ الشام بالظالم، مجاملةً للنفوذ الإيراني؟ هل استضافتُه مؤتمرَ نصرة شعب الأحواز في القاهرة، مطلع عام 2013، الذي شارك فيه جمهرة من علماء السنّة ومفكريهم، داخل مصر وخارجها، دفاع عن مصالح إيران، وإيران نفسها أرسلت إلى مرسي مبعوثًا يلتمس منه إلغاءه، فلم يكتفِ بردّهم، بل أرسل متحدثًا باسمه، الدكتور السلفي عماد عبد الغفور، ليلقيَ كلمة في المؤتمر، وكنت حاضرًا، ورصدت ما جرى في هاشتاغ #مؤتمر_نصرة_الأحواز_ بمنصّة إكس؟
هل موافقة مرسي على إعطاء مقعد سوريا في الجامعة العربية لممثّلي الثورة السورية، في مؤتمر قمة عربي شهدته الدوحة في مارس 2013، دعم لنفوذ إيران؟ هل استضافته لمؤتمر نادر في العالم الإسلامي، وهو اجتماع 500 من فقهاء أهل السّنّة ومفكريهم في القاهرة، لنصرة أهل الشام، يتصدّرهم الإمام يوسف القرضاوي، كانت دعمًا للنفوذ الإيراني في المنطقة، كما يودّ أخونا جمال أن يقول؟ وقد أفتى العلماء في ذلك المؤتمر بوجوب الجهاد لتخليص سوريا من الحكم الباطني الطائفي الموالي لإيران، وكنت تشرّفت بحضوره، وألقيت بعده، أمام حشد جماهيري بمدينة نصر، قصيدةً في سوريا نقلتها قناة الجزيرة مباشر على الهواء. هل رفْضُ الرئيس مرسي محاكمة من يتطوّعون للقتال إلى جانب الثوّار في سوريا اصطفاف مع إيران؟ خالد القزّاز، مستشار الرئيس مرسي للشؤون الخارجية، صرّح قائلًا إن المصريين الذين يقاتلون في سوريا من حقّهم المشاركة في القتال، ولن يُحاكَموا إذا عادوا إلى البلاد (بي بي سي عربي والمصري اليوم، 14 يونيو 2013). وهل حضور مرسي اجتماعًا جماهيريًا حاشدًا في القاهرة (في 15 يونيو 2013، أي قبل الانقلاب بأسبوعين) لنصرة الشعب السوري، وصيحته الشهيرة التي أطلقها: "لبيك يا سوريا"، ومطالبته "حزب الله" في لبنان بالخروج من سوريا، وقوف مع المصالح الإيرانية؟ وكالة رويترز أشارت عشيّةَ الانقلاب إلى أن ذلك الاجتماع كان “نقطة التحول" في نظر الجيش، ناقلةً عن "مصادر عسكرية مصرية" قولها إن "المصريين لا يريدون دولةً دينيّة"، وإنّ “قلق الجيش من الطريقة التي يحكم بها الرئيس محمد مرسي البلاد بلغ مداه عندما حضر تجمّعًا حاشدًا اكتظّ بمتشدّدين إسلاميين من أنصاره دعوا إلى الجهاد في سوريا"، مضيفةً أنه في ذلك التجمّع وَصَفَ رجالُ دين سنّة الشيعة الذين يقاتلون إلى جانب الأسد "بالكفّار"، كما "دعا مرسي نفسه إلى تدخل خارجي في سوريا ضدّ الأسد، الأمر الذي أدّى إلى توبيخ مبطّن من الجيش الذي أصدر بيانًا.. حادَّ اللهجة في اليوم التالي، يؤكد أن دوره الوحيد هو حماية حدود مصر” (2 يوليو 2013). وبهذا يكون محمد مرسي فارس الربيع العربي، وبطلًا من أبطال الثورة السورية (شاهد الڤيديو). لقد بكى السوريون الرئيس مرسي كما لم يبكِه شعب عربي آخر، وكتب الصحافي الحمصي، هادي عبد الله، بعد استشهاده: "رحم الله الشهيد الرئيس محمد مرسي. الثورة السورية تنعاه، وتعتبره أحد شهدائها. لم يقف حاكم عربي مع الثورة السورية كما وقف الشهيد الرئيس الشرعي لدولة مصر".
يقول سلطان: إن الودَّ بين الإخوان وإيران "أفزع المملكة وعواصم خليجية"، ولا أدري متى فزعوا، قبل فوز مرسي أم بعده أم خلال سنته اليتيمة؟ وما أسباب ذلك الفزع؟ يردف قائلًا إنّ الخوف من وصول نفوذ إيران إلى عاصمة بحجم القاهرة، كان أمرًا مفزعًا جدًا، و "كان حاسمًا في رفض الخليج، باستثناء قطر، لمشروع الإخوان وتجربة محمد مرسي".
كلام مؤسف لأن صاحبه لم يعرّف لنا ذلك الفزع، ولم يبيّن مظاهره وأسبابه، كما استمرّ في ترديد عبارة "مشروع الإخوان" التي تشيطن الجماعة وتستبطن نزع الوطنية عنها. هذا التفكير قاد إلى التعريض بدولة قطر التي أصبحت، هي الأخرى، تخدم النفوذ الإيراني. كأنما اتخذ الكاتب دعاية "مشروع الإخوان" (مرّةً أخرى، عبارة مضلّلة توحي بانفصال الجماعة عن الوطن، وتتجاهل أن مرسي دخل الانتخابات وفاز فيها ممثّلًا عن حزب اسمه “الحرية والعدالة”، لا عن الجماعة الأم نفسها) مبرّرًا لإقصائها، وكأنما التمس بها العذر للدول التي موّلت الانقلاب وحرّضت عليه.
يقارن سلطان بين الشرع ومرسي مشيرًا إلى أن الأول “تنظيم صغير محصور في سوريا”، الأمر الذي يُعدّ مطَمْئنًا “لدول الإقليم وخاصة في الخليج”، بينما “تجربة مرسي محمولة على مشروع الإخوان”، بحسب تعبيره، وهو "مشروع أممي وله أبعاد تنظيمية دولية.. وهذا كان مخيفًا”. هل يعني ذلك أن تدمير مرسي وقتل الناس الذين انتخبوه مبرَّر ومفهوم مثلًا؟ أنا واثق أن الأخ جمال سلطان لا يقصد ذلك، لكن هذا ما تنطوي عليه عباراته. لقد تجاهل التطمينات التي صدرت عن الرئيس مرسي لدول الخليج، وتجاهل أن مرسي يعمل في إطار دستور أقرّه الشعب، وتجاهل أن الحكم على أداء رئيس أو حزب يجب أن يأخذ مداه الدستوري، وألا يُسارَع إلى الحكم عليه بناءً على صور نمطية ومواقف مسبقة. ولنفرض أن ثمّةَ مشروعًا للإخوان كان مرسي وفريقه يسعون إلى تحقيقه، ما الضَّير في ذلك إذا كان الرجل جاء إلى السلطة بانتخابات حرّة، ويمكن أن يتركها في انتخابات حرّة؟ هل يؤيد سلطان مفهوم الضربات الاستباقية والوقائية، وهو مفهوم إرهابي جاهلي قائم على قاعدة: “سأتغدى عليه قبل ما يتعشّى عليّ”؟ من الذي يعطي السعودية أو غيرها حق الإطاحة برئيس دولة أخرى، لأنها “تخشى مشروعه" الذي لا يقتصر على مصر، و “له جذور وامتدادات في دول الخليج كافة"، بعكس الشرع الذي لا يحمل مشروعًا "عدائيًا"، بحسب سلطان، وليس لديه “خطط للتمدّد.. أو التأثير في نظم الحكم بالإقليم”. الانقلاب على مرسي إذن مفهوم، لأنه ردٌّ استباقي على مجموعة تبطن العداء! لكن كيف عرف سلطان أنّ انتصار الشرع لن يكون ملهِمًا ومؤثرًا؟ إنها مقارنة ظالمة تبرّر كل الفظاعات التي ارتُكبت بحقّ الملايين من المصريين، ودمّرت مصر، وأعادت المنطقة عقودًا إلى الوراء.
في موضع آخر من المنشور، يصف سلطان تَصَدُّرَ من وصفهم بالإخوان في البلدان التي سقطت دكتاتورياتها، بالخطأ التاريخي، عازيًا ذلك إلى “قدراتهم التنظيمية والمالية” التي حوّلت الربيع العربي إلى "حصان لجماعة الإخوان"، بحسب تعبيره. ولم يكن هذا خطأهم الوحيد، فقد "قفزوا" أيضًا إلى صدارة "مؤسسات الحكم، في مصر وليبيا وتونس واليمن"، والقفز هنا يعني حركة منفردة منبتّة الصلة بالناس الذين هم من أوصلوهم إلى الصدارة عبر انتخابات نزيهة، مضيفًا أن ذلك "القفز" خلق انطباعًا مؤدّاه أن الربيع العربي تحوّل إلى "ربيع إخواني"، الأمر الذي أثار "قلقًا، بل فزعًا في عواصمَ عربية كثيرة من المحيط إلى الخليج".
أولًا ـ تلقيب كل الإسلاميين في الدول العربية بالإخوان هو شأن الأنظمة التي لا تريد التمييز بين أطياف الحركات الإسلامية، وتسعى إلى وضعهم جميعًا في سلّةٍ واحدة من دون اعتبار للسياقات والفروقات والتفاصيل. حركة النهضة في تونس مثلًا إخوان، وحزب العدالة والتنمية في المغرب إخوان، والتجمّع اليمني للإصلاح في اليمن إخوان، قولبة تستخدم فرشة واحدة لطلْيِ الجميع، من أجل فهم أسهل.
ثانيًا: سلطان على حق، إذ كان على الإسلاميين (وهو التعبير الأدق) ألا "يقفزوا"، أو لا يترشحوا ولا يفوزوا حتى لا يثيروا "رعب" الأنظمة من الماء إلى الماء! انظر كيف يبرّر رفض الأنظمة لهبّات الشعوب ومطالبها بالحرية والكرامة، ومشاركتها في تقرير مصيرها واختيار ممثليها، ويحمّل الضحايا أوزار تلك الأنظمة وخطاياها.
يصل سلطان إلى آخر منشوره، فيستنتج من الموقف السعودي الإيجابي من الرئيس الشرع أن عداء المملكة للتيّار الإسلامي خرافة. ولا أدري كيف يشطبُ الفصلُ السوري الأخير قصّةً طويلة ملأى بأحداث شاهدة على هذا العداء، ولا زالت فصولها تتوالى. من المعلوم أننا لا نستطيع تحليل خطاب بالنظر إلى مفردةٍ واحدةٍ منه، ولا حتى إلى نصٍّ يتيمٍ في ثناياه، بل لا بدّ من النظر إلى الخطاب بمجمله، مفرداتٍ ونصوصًا وسياقات، حتى نؤسس حكمًا عادلًا بشأنه. ولكي نعرف تهافت ما ذهب إليه الكاتب، واستسلامه للعاطفة، فعلينا فقط أن نتصفّح منصّات سعودية كجريدة عكاظ أو جريدة الوطن أو موقع العربية لنرى الزعيق الذي لا يتوقف منذ سنوات ضد الإسلاميين والإسلام السياسي وعلماء وأدباء ومفكرين كثيرين ينتمون إلى التيار الإسلامي، من عرب وعجم، وشيطنة لكل الجماعات الإسلاميّة بما في ذلك جماعة التبليغ التي لا شأن لها بالسياسة (الڤيديو المرفق يحتوي على شخصيات إسلامية بارزة، معظمهم علماء ومفكرون، كانت السعودية يومًا تحتفي بهم وتُجلّهم وتنشر إنتاجهم وتستهدي بأفكارهم، ثم شرعت في وصمِهم بالتطرّف أو الإرهاب، أو التحذير منهم بوصفهم خطرًا على البلاد والعباد).
للأخ جمال سلطان أن يُثنيَ على مواقف السعودية، ولا ريب أنَّ الثناء في موضعه خير، لكن ليس من حقّه التوسل بهجاء الإخوان والبغي عليهم في سياق هذا الثناء. لماذا أجعل قضيتي النيل من جماعة إسلامية تواصَى بها أعداؤها، ورمَوها عن قوس واحدة، ففتنوها وآذَوها وقتّلوا أبناءها وسجنوهم وسلبوا أموالهم وشرّدوهم في الآفاق، ولا تزال عصابةٌ منهم في الأرض المباركة على الحقّ ظاهرين، لعدوّهم قاهرين؟ “بئسَ الزادُ إلى المعاد، العدوانُ على العباد”، قالها علي بن أبي طالب الذي كان يحلف: "وﷲ لأنْ أبِيتَ على حَسَك السّعْدان مُسهّدا، أو أُجرَّ في الأغلال مُصفّدا، أحبُّ إليّ من أن ألقى ﷲ ورسوله يومَ القيامة ظالمًا لبعض العباد، وغاصبًا لشيءٍ من الحطام، وكيف أظلمُ أحدًا لنفسٍ يُسرعُ إلى البِلى قفولُها، ويطول في الثرى حلولُها". إني أعيذك يا أخي جمال أن تأتيَ يومَ القيامة وأنت ظالمٌ لطائفةٍ من المسلمين! فإن أصرَرت على ما أنت عليه، فأعدَّ للسؤال جوابًا، وللبلاءِ جلبابًا، وتذكّر قول الذي لا يظلمُ الناسَ مثقال ذرّة: ﴿تلك الدارُ الآخرةُ نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادا، والعاقبةُ للمتقين﴾.