باتت دمشق قبلة لوفود دولية عديدة، أجنبية وعربية، بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وعقدت اجتماعات كثيرة مع ممثلين عن الإدارة الجديدة في سورية، وذلك بعد أن تلقت باستحسان، دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وسواها، الإشارات والخطوات الإيجابية التي قامت بها الإدارة الجديدة، فأقرّت بالتغيير الحاصل، وبإمكانية التعاون مع الإدارة الجديدة في مختلف المجالات.
بالمقابل، لم تتردّد دول عربية، مثل قطر والسعودية والكويت والأردن، في الوقف إلى جانب الإدارة الجديدة على الصعيدين، السياسي والاقتصادي، وأبدت استعدادها لتقديم الدعم غير المشروط للتغيير الحاصل، ومدّ يد العون للشعب السوري مع أجل تمكينه من التعافي، وإعادة إعمار ما دمّره النظام خلال 13 سنة الماضية، وأرسلت معونات إنسانية عاجلة، فضلاً عن مطالبتها برفع العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على سورية، والتي باتت موجّهة ضد الشعب السوري بعد سقوط نظام الأسد.
في المقابل، امتنعت بعض الدول العربية عن التواصل مع الإدارة الجديدة، وخاصة مصر، التي وقفت موقف المترقّب والمتوجّس من التغيير الحاصل في سورية، فلم يتصل أيٌّ من مسؤوليها مع نظرائهم في دمشق، وراحوا يتشرطون، ويملون عليها ما يجب القيام به، وبما يشبه الأوامر، الأمر الذي يثير تساؤلاتٍ عديدة عن الموقف المصري من الإدارة السورية الجديدة، خاصة أن وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي كان على تواصل دائم مع وزير خارجية الأسد، بسام صباغ، قبل انهيار نظام الأسد، ثم أجرت القاهرة بعد سقوطه اتصالات مع أطراف عديدة، منها الرياض وأبوظبي وعمّان وموسكو وبغداد والجزائر.
وذهب وزير الخارجية المصري بتوجيه رسائل سلبية، تفيد بالتحذير من أن تتحوّل سورية إلى مركز للتطرّف والتشدد، فيما واصلت وسائل الإعلام الرسمية المصرية انتقاداتها الإدارة الجديدة في دمشق، وتخويف الشعب المصري من تحوّل مشابه، ووصل الأمر إلى حدّ التحذير من "تركيز القوى الخارجية على إسقاط الدولة المصرية"، ومهاجمة الإدارة السورية الجديدة، مع التركيز على قائدها أحمد الشرع.
إضافة إلى أن السلطات المصرية اتخذت أخيراً جملة إجراءات تمنع بموجبها دخول السوريين القادمين من مختلف الدول، من دون الحصول على التصريحات اللازمة من الجهات الأمنية المعنية، ثم قرّرت منع دخول السوريين من حاملي الإقامات الأوروبية والأميركية والكندية إلى مصر من دون الحصول على الموافقة الأمنية.
أما وزير الخارجية المصري فقد أطلق أخيراً جملة من الاشتراطات والمطالب، تشابه التي أطلقها مسؤولو دول غربية زاروا دمشق، وحدّدها في "ضرورة إطلاق عملية سياسية شاملة لا تُقصي أي طرف، وتضمن توفير الأمن والحماية لجميع الأقليات، وتعكس التنوع والتعدّد في المجتمع السوري" وضرورة عدم "تحوّل سورية إلى مركز للتنظيمات الإرهابية، أو مأوى لأي عناصر متطرّفة".
لكنه أضاف إليها "عدم تجاوز المعارضة السورية الشريفة التي لم تحمل السلاح، والتي لعبت دوراً مهمّاً في سورية منذ عام 2011". وكرّر مقولة إن بلاده تتعامل مع رسائل الطمأنة العديدة التي أرسلتها الإدارة الجديدة بالمقولة الغربية نفسها التي تطالبها بضرورة "ترجمة الأقوال إلى أفعال ملموسة".
المشكلة أن الوزير المصري طالب الإدارة الجديدة بما تفتقده بلاده، خاصة في ما يتعلق بحكم تمثيلي شامل، وبالتالي، ينطبق عليه القول المأثور "فاقد الشيء لا يعطيه"، أو بالأحرى لا يطالب به، إذ لم يطلق النظام المصري، منذ انقلاب الجيش المصري عام 2013 على رئيس منتخب، أي عملية سياسية شاملة في مصر.
وإن كان من الممكن تفهّم مطالبات الغرب الإدارة الجديدة بحكم تمثيلي شامل، لأن بلادهم تتمتع فيها هيئات الحكم بصفة تمثيلية واسعة، كونها بلاداً ديمقراطية ليبرالية، وتجري انتخابات حرّة ونزيهة لتشكيل مختلف هيئاتها ومؤسّساتها.
أما هيئات النظام المصري فلا تتمتع بذلك، خاصة أن هذا النظام لا يأتي إلى السلطة بانتخابات حرة. كما أنه يحظر العديد من أحزاب المعارضة، وتعجّ سجونه بالمعتقلين، ولا يحترم حقوق الإنسان وسوى ذلك.
لم تكترث القاهرة بالإشارات والخطوات الإيجابية التي قامت بها إلى الإدارة الجديدة في سورية، وأكّدت فيها سعيها إلى الانخراط في محيطها العربي بعيداً عن سياسة المحاور والأحلاف، وأنها لن تشكل عامل عدم استقرار بالنسبة إلى جوارها والعالم، بل ستعمل على تصفير المشكلات معها، إضافة إلى أنها ليست في وارد نهج تصدير الثورة، بل ستلتفت إلى بناء الدولة، والعيش في سلام ووفاق مع محيطها.
أحد أهم الأسباب وراء الموقف المصري السلبي حيال التغيير الحاصل في سورية قبول غالبية السوريين بالتغيير
أحد أهم الأسباب وراء الموقف المصري السلبي حيال التغيير الحاصل في سورية قبول غالبية السوريين بالتغيير الحاصل، إلى جانب الارتياح الشعبي في عموم البلدان العربية.
لذلك انتاب السلطات المصرية الخوف والتوجّس من انتقال النموذج السوري إلى مصر، خاصة أنه جسّد عودة الإسلاميين إلى واجهة المشهد السياسي، وقدّم خطاباً متصالحاً مع دول الجوار ومع دول الغرب والعالم، الأمر الذي يفسّر تقاطر وفود دول غربية وعربية إلى دمشق، وتجاوز الدول الغربية التصنيف الذي وضع هيئة تحرير الشام في خانة المنظّمات الإرهابية.
وتخشى السلطات المصرية من أن يقدّم هذا النموذج دفعة لإحياء آمال المصريين الطامحين إلى التغيير، والخلاص من الأوضاع المعيشية السيئة التي تعصف بهم، خاصة مع الذكرى الرابعة عشرة للثورة المصرية التي انطلقت في 25 يناير/ كانون الثاني عام 2011.
وقد بنى النظام المصري مبرّرات سيطرته على السلطة في بلاده بناء على سردية تخليص مصر من حكم الإخوان المسلمين، وشيطنتهم كي يبرّر الانقلاب العسكري عليهم.
وحاول هذا النظام بناء قاعدته الشعبية على مظاهر العداء لحركات الإسلام السياسي.
إضافة إلى أنه ارتكز في تشييد شرعيته السياسية على تمكّنه من القضاء على حكم الإخوان المسلمين، ومحاولة نزع جذورهم من المجتمع المصري، الذي لم يحسن قادة "الإخوان" المصريين قراءته جيداً، ولم يتمكّنوا من تكوين حاضنة شعبية حولهم.
ليس من المرجّح أن تتغير مواقف النظام المصري السلبية مع التغيير الحاصل في سورية في المدى المنظور، على الرغم من أن الإدارة السورية الجديدة أرسلت إشارات إيجابية عديدة، وليس آخرها اعتقال أحمد المنصور، الذي نشر مصوّرة على وسائل التواصل الاجتماعي، هدد فيها النظام المصري.
ولم ينظر النظام بإيجابية حيال هذه الخطوة؛ كما أنه لم يلتفت إلى تأكيدات الإدارة السورية الجديدة أنها تتعامل في علاقاتها مع غيرها من الدول، وفق منطق الدولة وليس وفق منطق الثورة.
واعتبر ذلك كله غير كافٍ بالنسبة إلى النظام المصري، الذي ما يزال يدير ظهره للتغيير الحاصل في سورية.