لا يحتاج المرء لتبيان مكانة التعليم ومخاطر انعدامه أو ضعف جودته، فالتعليم هو مفتاح النهوض ووسيلة ترقية الأفراد والجماعات، وهو الذي يضمن تكوين رأسمال بشري بات اليوم هو السبيل الأفضل لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبغض النظر عن واقع التعليم في بلادنا العربية على مستوى بعض المؤشرات الكمية مثل نسبة التمدرس ومعدل الأمية والرقم القياسي للتعليم (الذي يقيس أعداد الالتحاق بالمدارس الثانوية والجامعية ومعدلات القراءة والكتابة)، فإن العملية التعليمية كآلية تنتج مخرجا تربويا وعلميا نوعيا لا زالت تعاني بعض التحديات، وغالب تلك التحديات منشؤه متعلق بأسلوب تلك العملية، ومهما ظلت الخطط تدور في فلك تحقيق الأهداف الكمية دون الوصول إلى نوعية المخرج ستظل بلداننا تدور في حلقة مفرغة من تجريب الإستراتيجيات ومقايسة المقاربات دون الوصول لطريق سالك وسبيل موصل.
الأهداف قبل البرامج
يبدو لمتابع العملية التربوية في بلداننا أنها ظلت مهمومة بتكثيف البرامج وحشد المعارف لتخريج متعلمين ملمين بتفاصيل العلوم وتفريعاتها، وهكذا ظل حفظ وفي حالات قليلة فهم المقرر هو هدف المشرف التربوي، ورغم أن إكساب المعارف والعلوم لطلابها هو أبرز أهداف العملية التعليمية، فإن الوصول لخلق العقل الواعي المتبصر والذهن الذكي الخلاق ينبغي أن يكون الهدف الناظم الذي تصاغ في ضوئه البرامج والمقررات وتشتق لأجله الوسائل التربوية والتعليمية المختلفة، وأعتقد أن هذه الرؤية الكلية ينبغي أن تشمل أسسا أربعة تعضدها أساليب خادمة؛ تحقق بتكاملها مخرجا تربويا وتعليميا نموذجيا:
- الإعداد للثقافة: وهو تعبير استخدمه طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، وقد استعرته هنا للدلالة على المعنى الخلاق للتعليم، وأقصد به أن يتم السعي لسَوْق المقررات والمناهج الدراسية لا من أجل الاستظهار الأصم والأبله للحقائق والأحداث والقوانين، بل من خلال توجيه تلك المعارف والمعطيات والحقائق العلمية بطريقة تكسب صاحبها ـ قبل أي شيءـ رؤية ناظمة هي التي تشكل الوعي بتلك المعارف وتمكن من القدرة على لم شتاتها وجمع متفرقها والاستفادة من تراكمها، وتحقيق هذا الهدف هو الذي يضمن تخريج متعلمين ملمين بالمعارف والعلوم متشربين لها، تشكلت لديهم ذهنية قادرة على الاستيعاب والبحث والتعلم الذاتي.
غياب هذا الهدف وهذه الخلفية البيداغوجية هو الذي يصدمنا بخريجي تعليم عال يجهلون الكثير من مبادئ العلوم وركائزها ويفتقدون الوعي بالأشياء وبالمعارف والعجز عن توظيفها لتشخيص الأدواء واستنباط الحلول.
- صقل ملكات التفكير الأصيل وإكساب قدرات التفكير العلمي: وهو هدف يغيب غالبا في مناهج التعليم، ولا يسمع له التلاميذ ذكرا إلا في مراحل متأخرة جدا وهم طلاب جامعيون، بواسطة مقرر ميت يتحدث عن أنواع المنهج العلمي وخصائصه، في حين أن الذي يتوجب فعله هو خلق مقدرة التفكير السليم والعلمي، من خلال إكساب التلاميذ قدرات التفكير الأصيل وملكاته ومن خلال توجيه عقولهم وتمرين التفكير لديهم واختباره، وتعليم خطوات التفكير المنهجي وأنواع وخصائص المناهج العلمية.
- غرس القيم: فالتعليم له وظيفة تربوية هامة، إذ يتعين عليه المساهمة في تربية الأجيال، وغرس قيم الخير والحق والعدل في نفوس الناشئة، وتحقيق الانسجام بين معتقداتهم الدينية وسلوكهم من خلال الاستقامة السلوكية والانضباط الخلقي، بالإضافة إلى تحقيق تربية مدنية وحضارية يؤمن أصحابها بالمشروع الوطني وبالجماعة الوطنية والوحدة المكرسة لها، والأخوة الضامنة لها، وتلك مهمات تربوية جُلى يتعين للنهوض بها تأهيل كادر تربوي رسالي يؤمن بوظيفته ويملك مهاراتها، وتتوجب مساعدته على القيام بهذه المهمة من خلال تحقيق الرضا الوظيفي للمعلمين والأساتذة. كما لا يمكن التحقق بهذه الوظيفة التربوية من خلال المواد التعليمية النظرية والمواعظ المباشرة، بل ينبغي أن يضاف للمقررات الخادمة للهدف برامج عملية في المراحل الابتدائية تحقق الاندماج والأخوة والتفاؤل والحب، وتضمن التعارف الوطني بين ناشئة فئات المجتمع.
- التأهيل والتدريب: حاجة الاقتصاد والإدارة إلى كوادر قادرة على المنافسة يتطلب سعي الرؤية التعليمية إلى ضمان التمهين للخريجين والخبرة الفنية لأطر العلوم التطبيقية، وهو ما سيتحقق من خلال التدريب والتأهيل، وإكساب الخبرات والمهارات التي تحتاجها الأمة وتتطلبها الطبيعة “العلمية” لكثير من المعارف والعلوم المعاصرة.
إن الحديث عن تلك الأهداف جملة هو الذي يضمن رؤية تكاملية وواعية للتعليم، لا تَجتزئه في هدف تبسيطي وحيد، ولا تُغيَب شموليته وكلياته في قصة التكوين المهني التي تحشد لها مبررات احتياجات السوق، وهو كلام يوشك أن تُبتذل بسببه المعارف والعلوم، وتُغيب في طياته حقائق من قبيل أن التقانة التي أنتجها الغرب لم يصل لها عن طريق اجتزاء أهداف العلم والتعلم، ولم يصل لها من خلال افتتاح الورشات الفنية رأسا، بل كانت نتاج معارف موغلة في الأبعاد النظرية كالفيزياء والرياضيات، ومن خلال اتباع المنهج العلمي التجريبي والمناهج المنطقية العقلية كالاستقراء والاستنباط.
ثورة في الأساليب
إن من ما يضع هذه الرؤية موضع التنفيذ والتمكين، هو القيام بثورة في الأساليب والطرق، تجمع إلى الاستظهار والحفظ الفهم والاستيعاب، وتضع لطرائق التفكير والتفاكر والملاحظة التجريب موضعا، فكم رأينا من خريجي جامعات لا حظ لهم في معرفة الواقع، ولا قدرة لهم على فهم الأحداث وتعاطى الأفكار ونقدها ومناقشتها، وإذا كان الجهل هو خلو الفرد من استظهار وفهم العلوم، فهذا يعني أن الإدراك لا يتم إلا بتحقق هذه الثنائية التي تجمع إلى الضبط الاستيعاب والإحاطة الذهنية الكاملة. ولعل من أسباب تقدم البحث العلمي الذي حققته بعض الدول الغربية وأمريكا هو أن المنهج التعليمي في البلدان الانكلوسكسونية قائم على الملاحظة والمشاركة والفهم والتعليل.
إنه بغض النظر عن المكون المعرفي في مناهجنا التعليمية والعجز الملاحظ في “تواضع” المخرج التربوي لها، فإن المؤكد أن الأهداف من وراء هذه البرامج كانت غائمة، ويتم إمرارها من خلال أساليب وطرق تدريس لا تنتج فكرا ولا تخلق إبداعا، وصلى الله على نبينا محمد القائل: ” إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا ، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ ، فَشَرِبُوا مِنْهَا ، وَسَقَوْا ، وَرَعَوْا ، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى ، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً ، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ ، وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِه”.